الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (أرشيف)
الأحد 13 أكتوبر 2019 / 19:36

مغامرة أردوغان وبصمته الشخصية

لا يعرف أحد كيف، ومتى، ستنتهي الحقبة الأردوغانية في تاريخ تركيا الحديثة. ومع ذلك، لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن ما سيبقى منها في التاريخ لن يكون إيجابياً في كل الأحوال. والواقع أن في حقبة كهذه ما يتجاوز أردوغان نفسه، ويُعيد التذكير بأشياء من نوع الجغرافيا السياسية، والذاكرة التاريخية، وموازين القوى في الشرق الأوسط.

النزعة التسلطية، وإعادة هيكلة الدولة التركية، والطموحات السلطانية والأوهام العثمانية، حقائق يصعب على أحد إنكارها

فرهانات تركيا الحديثة، بعد انهيار الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، خابت مرتين. الأولى عندما أدارت ظهرها لإقليمها الجغرافي، أي الشرق الأوسط، بالمعنى السياسي والثقافي، والتحقت بالغرب على أمل قبولها كجزء منه. وهذا ما تجلى في السلوك السياسي والثقافي لدولة أتاتورك وخلفائه من عسكريين وقوميين على مدار عقود طويلة.

والثانية عندما استدارت دورة كاملة، بعدما فشلت في انتزاع الاعتراف بها كجزء من الغرب، وراهنت على إعادة التموضع بالمعنى السياسي والثقافي، أيضاً، في الشرق الأوسط، كقوّة إقليمية فاعلة ومقررة. وكان هذا، وما زال، رهان أردوغان والإسلاميين الأتراك.

وفي المرتين، أيضاً، اصطدم الرهان بالذاكرة التاريخية. فالهويتان الدينية والثقافية للسلطنة العثمانية، ناهيك عن اللغوية، والقومية، والتجربة التاريخية على مدار قرون سبقت، كانت كلها أحجار عثرة في رهان تركيا الحديثة على الالتحاق بالغرب.

وبالقدر نفسه، اصطدم رهان الاستدارة إلى الشرق بالذاكرة التاريخية لشعوب الشرق نفسه، فالاستبداد الآسيوي، الذي كانت السلطنة العثمانية من أبرز تجلياته، ظل مقترنا في ذاكرة الشعوب المعنية بقرون من الظلم والتخلّف، أيضاً.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بموازين القوى، فإن وقوع الشرق الأوسط في قبضة الكولونيالية الغربية، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ومحاولة الدولة التركية نفسها الخروج من تحت أنقاض الحرب، من الحقائق التي أسهمت في الحد من طموح تركيا الحديثة في دور القوّة الإقليمية الفاعلة في الإقليم، وحرّضتها على الاستدارة في اتجاه الغرب.

وما يعرقل طموح تركيا الأردوغانية، في إعادة التموضع، والاستدارة في اتجاه الإقليم، بعد نهاية الحرب الباردة، أن الشرق الذي تحاول العودة إليه ليس، ولم يعد، الشرق الذي خرجت منه بعد الحرب العالمية الأولى، فقد مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يُقال.

وإذا جاز التفكير في مشروع تركيا الأردوغانية على خلفية كهذه، فإن ملامح المشروع نفسه لن تتجلى بصورة كافية دون التذكير بحقائق إضافية من نوع أن الاستدارة في اتجاه الإقليم كانت تعبّر، أيضاً، عن محاولة للتماهي مع، والاستفادة من، مشاريع أميركية، وغربية عموماً، لإعادة تشكيل موازين القوى في الإقليم، بعد نهاية الحرب الباردة.

وقد تجلى رهان خاص من جانب الأميركيين والغرب عموماً، على الإسلام السياسي بوصفه الشريك المُحتمل لإنشاء أنظمة جديدة، وإعادة ترتيب أوضاع المنطقة بعد نهاية الحرب الباردة. وفي سياق كهذا جاء الرهان على الأردوغانية، أيضاً، لا في تركيا وحدها، ولكن في الإقليم، أيضاً، على أمل أن تكون الأردوغانية رائدة وقائدة لمشروع التغيير.
بدا المشروع، للوهلة الأولى، وكأنه خارطة طريق للمستقبل في تسعينيات القرن الماضي، والعشرية الأولى في هذا القرن. وفي هذا الصدد، سيفكر المؤرخون طويلاً بعد وقت قد يطول أو يقصر في أسئلة من نوع: لماذا انكشفت الأردوغانية بهذه السرعة؟

وبصرف النظر عن إجابات محتملة، وهي كثيرة بالتأكيد، فإن أحداً لن يتمكن من تجاهل أمرين: أحداث الربيع العربي، وما نجم عنها من حرائق في أماكن مختلفة. وشخصية أردوغان نفسه، وما طرأ عليها من تحوّلات سريعة.
فأحداث الربيع العربي أرغمت مختلف اللاعبين على اللعب بأوراق مكشوفة، فلم يعد التحالف بين تركيا الأردوغانية وجماعات الإسلام السياسي مجرّد تقاطعات أيديولوجية، بل تجلى كنشاط تنظيمي وسياسي وعسكري ودعائي منظم لأردوغان وحلفائه.

أما شخصية أردوغان، وما طرأ عليها من تحوّلات سريعة، فهذا ما لن يتمكن أحد من تجاهله. فالنزعة التسلطية، وإعادة هيكلة الدولة التركية، والطموحات السلطانية والأوهام العثمانية، حقائق يصعب على أحد إنكارها. وأبرز أنها متسارعة من ناحية، وان فيها ما يُسهم في افتضاح الأردوغانية كخيار لتركيا الحديثة، وكمشروع لإعادة هيكلة موازين القوى في الإقليم.

وفي سياق كهذا تتموضع مغامرة أردوغان العسكرية شرقي الفرات في سوريا، التي ستكون لها نتائج كارثية لا على السوريين والأتراك وحسب، ولكن على الأردوغانية نفسها في تركيا والشرق الأوسط، أيضاً. فإلى جانب كل ما ذكرنا من عوامل موضوعية أفشلت الاستدارة التركية في اتجاه الإقليم يضيف أردوغان بصمته الشخصية هذه المرّة.