الرئيس التونسي الجديد قيس سعيّد (أرشيف)
الرئيس التونسي الجديد قيس سعيّد (أرشيف)
الخميس 17 أكتوبر 2019 / 18:48

لا يشبههم وليس منهم

"الرئيس" الجديد "قيس سعيد" لا يبدو أنه قادم من هناك، من حقبة بورقيبة وأفكارها، وليس من السهل تبين برنامجه أو قراءة توجهاته

ليس علي أن أذهب بعيداً وأنا أتابع احتفالات التونسيين برئيسهم الجديد، سأقف بين الثلاثة، الحبيب بورقيبة بقامته القصيرة وهو يتفقد ضريحه في المنستير، ومحمد الصغير أولاد أحمد وهو يقنعني بأفكاره وثقته بتونس،  وأن الغنوشي ليس سوى أحد المارة المتلكئين في شارع الحبيب بورقيبة، وأنه يستطيع أن يجمع في أمسية واحدة أكثر مما تجمعه معظم الأحزاب التونسية، والهادي جويني الذي غير الموسيقى وجعلها أقرب، وهو يصعد في الثمانين، في آخر اطلالة له، على مسرح قرطاج نحيفاً ومبتهجاً كمن يعود إلى مسقط رأسه، في مكان آخر من المشهد يمكن تمييز صوت الشيخ العفريت وتتبع الكلمات "الأيام كيف الريح في البريمة".

هكذا أرى تونس التي عشت فيها سنوات طويلة وغنية، وهكذا أفكر فيها.

انتخابات تونس في محصلتها النهائية أكثر عمقاً من مجرد اسمين ونسبة 60%، لقد كشفت هشاشة النخب السياسية وهامشيتها في الشارع، ودفعت أبعد أي إمكانية للعودة الى الوراء.

لم يكن لنبيل القروي فرصة أمام قيس سعيّد، خارج السجن أو خلف القضبان، الأمر يذهب أبعد من ذلك حيث تتدفق الرغبة العاتية بالتغيير، بالبحث عن بدائل لكل العبث السياسي الذي اكتنف تونس بعد هرب بن علي وانهيار منظومته الأمنية التي واصل بناءها طوال حكمه الذي استغرق 23 عاماً.

ولعل هذا الوضوح الذي عبرت عنه نسب التصويت، 73% تقريباً لسعيد، و27% للقروي، هو الذي دفع الأخير لتقبل هزيمته دون ادعاءات ودون طعون زائدة عن الحاجة، "..لا يمكن إلا الانحناء لإرادة الشعب"، قالت سميرة الشواشي المتحدثة باسم حزب "قلب تونس". 

ابن علي كان خطأ الحبيب بورقيبة القاتل الذي كلف البلاد 23 عاماً من ديكتاتورية الأمن والسماسرة وفساد الوظيفة العمومية، الخطأ الذي بدأ من استدعاء ضابط كان يشغل وظيفة الملحق العسكري في وارسو، ثم تسليمه وزارة الداخلية بينما كانت ثورة الخبز تتدفق في شوارع البلاد، القرار الغريب الذي يخرج عن منظومة أفكار مؤسس تونس وقراءته بعيدة النظر.

يمكن تخيل صدمة بورقيبة وهو يتلقى تقارير المظاهرات في الشوارع والهتافات والاحتجاجات في ثورة الخبز، يمكن تخيل إحساسه بنكران الجميل، هذا جزء من شخصيته الأبوية الطاغية، يمكن تفهم غضبه أيضاً، الذي دفعه للتخلي عن حذره المعروف من رجال الأمن والعسكر.

المحامي الحيوي المثقف الذي وظف ثقافته ومهنته في تطوير منظومة القوانين المدنية في بلاده، حافظ على تلك المسافة المأمونة مع فرنسا المستعمرة، مسافة تسمح باستكمال تأثيرات مدنية واقتصادية وثقافية على الدولة الصغيرة الناشئة، على الأرض تم تأسيس بنية تحتية قانونية مدنية مبنية على الحقوق والمساواة، وتطوير نظام تعليمي يخدم هذه التوجهات المدنية.

بورقيبة الذي استطاع أن يعبر ببلاده الستينيات سنوات الصعود الناصري وهزيمته، وانتصار الثورة الجزائرية، وانطلاق الثورة الفلسطينية، وتأسيس منظمة التحرير، والاختراق الماركسي في اليمن الجنوبي، وظهور نظام القذافي الإشكالي في ليبيا، لم يكن قادراً على تقبل مظاهرات الاحتجاج المشروعة تلك، والتي بدت بالنسبة له، كما كل شيء في تونس، شأناً شخصياً.

ثورة الخبز كانت نقطة تحول عهد المؤسس، من أبوابها الخلفية دخل ضباط الأمن، ونقل الإخوان المسلمون الكثير من الحقائب، والوعود والتحذيرات السماوية، واستعاد القوميون واليساريون اللافتات القديمة المطوية في القبو، وتحركت دول وقوى للبحث عن نفوذ في تونس، بينما كان فساد بعض النخب المحيطة بالزعيم الهرم يغذي كل هذا.

الأشياء التي حدثت بعد ذلك كانت محصلة، أو مصابة بتلك الثورة التي أخمدها بن علي باسم "الزعيم"، ثم باسمها انقلب على الزعيم نفسه متبنياً برنامجه ومنجزه.

الرئيس الجديد قيس سعيّد لا يبدو أنه قادم من هناك، من حقبة بورقيبة وأفكارها، وليس من السهل تبين برنامجه أو قراءة توجهاته تحت الطبقة السميكة التي تسبقه مثل اسم بثلاثة مقاطع، اللغة الفصحى، والبنية الأخلاقية الصارمة، وتاريخ من النزاهة الأكاديمية.

ولكنهم في تونس منحوه 73%، جزء كبير من هذه النسبة جاءت من فكرة "أنه لا يشبههم" وأنه "ليس منهم".