لبنانيون يتظاهرون في بيروت احتجاجاً على تدهور الوضع الاقتصادي والفساد (رويترز)
لبنانيون يتظاهرون في بيروت احتجاجاً على تدهور الوضع الاقتصادي والفساد (رويترز)
السبت 19 أكتوبر 2019 / 19:26

تقرير: لبنان أمام مفترق طرق

أصبح لبنان أقرب للأزمة المالية من أي وقت مضى، على الأقل منذ فترة الثمانينيات التي شهدت دماراً مروعاً في الحرب الأهلية، إذ تكالب حلفاء الحكومة والمستثمرون والمحتجون الذين خرجوا للشوارع في مختلف أنحاء البلاد على مطالبتها بمعالجة الفساد، وتنفيذ الإصلاحات الموعودة منذ مدة طويلة.

فقد سارعت حكومة رئيس الوزراء سعد الحريري، الخميس، لإلغاء خطة بعد ساعات من إعلانها كانت تقضي بفرض رسوم على المكالمات الصوتية عبر تطبيقات مثل واتساب، وذلك في مواجهة أضخم احتجاجات شعبية منذ سنوات أغلق فيها المحتجون الطرق، وأشعلوا إطارات السيارات.

وعلى وجه السرعة يحتاج لبنان، أحد أكثر دول العالم مديونية والذي تتناقص احتياطياته الدولارية بسرعة، لإقناع حلفائه في المنطقة والمانحين الغربيين بأنه سيتحرك بجدية أخيراً لمعالجة مشاكل متأصلة مثل قطاع الكهرباء الذي يعاني من الإهدار ولا يمكن التعويل عليه.

دعم خارجي
وأوضحت مقابلات أجرتها رويترز، مع ما يقرب من 20 من مسؤولي الحكومة والساسة والمصرفيين والمستثمرين أن لبنان يواجه إذا لم يحصل على دعم مالي من الخارج احتمال تخفيض قيمة العملة، أو حتى التخلف عن سداد ديونه في غضون أشهر.

وقال وزير الخارجية جبران باسيل، في كلمة بثها التلفزيون، أمس الجمعة، إنه "قدم ورقة في اجتماع لبحث الأزمة الاقتصادية في سبتمبر (أيلول)، قال فيها، إن لبنان يحتاج "صدمة كهربائية".

وقال دون أن يحدد ماهية ما يقصده بالرصيد المالي: "قلت أيضاً إن القليل الباقي من الرصيد المالي قد لا يكفينا لفترة أطول من نهاية السنة، إذا لم نعتمد السياسات المطلوبة".

وكانت بيروت قد تعهدت مراراً بالحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية، مقابل الدولار والالتزام بسداد ديونها.

غير أن المصادر قالت، إن الدول التي اعتادت التدخل مالياً لإنقاذ لبنان من الأزمات بشكل يعتمد عليه نفد صبرها بفعل سوء الإدارة والفساد، ولجأت لاستخدام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في الضغط من أجل التغيير.

وسبق أن قدمت الدول الغربية مساعدات مالية سمحت للبنان بتحدي الظروف لسنوات. غير أنها قالت للمرة الأولى، إنها لن تقدم أموالاً جديدة إلى أن تأخذ الحكومة خطوات واضحة صوب الإصلاحات التي وعدت بها منذ مدة طويلة.

وتأمل تلك الحكومات، أن تتحرك الحكومة لإصلاح نظام استغله ساسة طائفيون في توزيع موارد الدولة، بما يحقق مصالحهم بدلاً من بناء دولة تعمل على أسس متينة.

لاجئون سوريون 
ومن الممكن أن تغذي الأزمة المزيد من الاضطرابات في بلد يستضيف حوالي مليون لاجئ من سوريا، التي فتح فيها توغل عسكري تركي في الشمال الشرقي هذا الشهر جبهة جديدة في الحرب الدائرة منذ ثماني سنوات.

وقال توفيق غاسبار المستشار السابق بوزارة المال اللبنانية والاقتصادي السابق بمصرف لبنان المركزي وصندوق النقد الدولي: "إذا ظل الوضع (على ما هو عليه) دون أي إصلاحات جذرية فتخفيض قيمة العملة أمر محتوم".

وأضاف "منذ سبتمبر(أيلول) بدأ عهد جديد. علامات الإنذار كبيرة وفي كل مكان خاصة أن المصرف المركزي يدفع ما يصل إلى 13% للاقتراض بالدولار".

وعلى رأس قائمة الإصلاحات في بيروت مشكلة من أعقد المشاكل هي إصلاح انقطاع الكهرباء المزمن الذي جعل اللجوء لمولدات الكهرباء الخاصة ضرورة باهظة الكلفة. ويرى كثيرون أن "هذه المشكلة هي الرمز الرئيسي للفساد الذي أدى إلى تدهور الخدمات والبنية التحتية".

وقال الحريري، في كلمة إلى الشعب بثها التلفزيون، إنه "ظل يكافح لإصلاح قطاع الكهرباء منذ تولى منصبه". وأضاف "اجتماع ورا اجتماع ولجنة ورا لجنة وطرح ورا طرح، وصلت أخيراً على خط النهاية إجى من يقول ما بيمشي؟".

وأضاف وهو يستعرض الصعوبات التي تواجه تنفيذ الإصلاح على نطاق أوسع أن كل لجنة تحتاج مشاركة تسعة وزراء على الأقل إرضاء لجميع الأطراف.

وقال: "حكومة وحدة وطنية؟ فهمنا. ولجان كمان، لجان وحدة وطنية؟ والنتيجة ما في شيء بيمشي".

وسيكون مضمون موازنة 2020، عنصراً أساسياً في المساعدة في الإفراج عن حوالي 11 مليار دولار، صدرت بها تعهدات مشروطة من المانحين الدوليين بمقتضى مؤتمر سيدر، الذي عقد العام الماضي. غير أن اجتماع مجلس الوزراء الذي كان مقرراً عقده لبحث الميزانية، الجمعة، أُلغي وسط الاحتجاجات الشعبية.

انتفاضة الضرائب
وكانت حكومة الحريري، التي تشارك فيها أحزاب لبنان كلها تقريبا، قد اقترحت فرض ضريبة بمقدار 20 سنتاً في اليوم على المكالمات الصوتية، من خلال تطبيقات مثل واتساب وفيس بوك وفيس تايم.

وفي بلد يقوم على أسس طائفية، ربما يكون انتشار الاحتجاجات على نطاق واسع على غير المعتاد علامة على تزايد الغضب من الساسة الذين شاركوا في دفع لبنان إلى هذه الأزمة.

وتصاعد الدخان من جراء حرائق في وسط بيروت، وانتشرت قطع الزجاج المكسور في الشوارع من جراء تحطم واجهات عدد من المتاجر. وأطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لتفريق بعض التجمعات.

ووصفت صحيفة "النهار"، ما يجري بأنه "انتفاضة ضريبية". وقالت صحيفة الأخبار اليومية، إنها "ثورة واتساب".

وقال فادي عيسى (51 عاماً)، الذي شارك في الاحتجاجات: "ما بقى فينا نتحمل في ظل السلطة الفاسدة. أولادنا ما عندهم مستقبل... ما بدنا استقالة فقط بدنا محاسبة، وبدهم يرجعوا المصاري يللي سرقوها، ولازم يصير تغيير والشعب هو الذي يستطيع أن يغير".

وقال عدد من المصرفيين والمستثمرين والمسؤولين الذين حاورتهم رويترز، إن شروخاً جديدة ظهرت بين الحكومة اللبنانية ومقرضيها من القطاع الخاص مع تبدد الثقة وندرة الدولارات.

فبعد سنوات ظلت البنوك تمول الحكومة خلالها متوقعة أن تواصل العوائد ارتفاعها بدأت تلك البنوك تطالب انطلاقاً من إحساسها من اقتراب البلاد من الانهيار بتنفيذ الإصلاحات، لكسب تأييد الجهات المانحة.

وقال أغلبية ممن حاورتهم رويترز، إن "لبنان سيشعر على الأرجح بضغوط اقتصادية ومالية أكبر في الأشهر المقبلة، لكنه سيتفادى تحديد سقف لاسترداد الودائع أو عجز الدولة عن سداد التزاماتها السيادية".

ومع ذلك انقسم المسؤولون والمصرفيون والمستثمرون، فيما إذا كانت الأمور ستصل إلى حد تخفيض قيمة الليرة اللبنانية، وذلك بسبب الإخفاق لسنوات في تنفيذ الإصلاحات وفي ضوء التصميم الجديد بين المانحين التقليديين على المطالبة بها.

وقال رئيس قسم البحوث الاقتصادية والتحليل في بنك بيبلوس نسيب غبريل: "أنت بحاجة لصدمة إيجابية. لكن الحكومة تعتقد للأسف أن الإصلاحات يمكن أن تحدث دون المساس بالهيكل الذي تستفيد منه".

وأضاف أن على لبنان تطبيق الإصلاحات من أجل زيادة التدفقات الرأسمالية.

ديون حكومية
في الشهر الحالي، قررت مؤسسة موديز للتصنيفات الائتمانية وضع تصنيف لبنان (سي ايه ايه1)، قيد المراجعة تمهيداً لتخفيضه، وقدرت أن المصرف المركزي الذي تدخل لتغطية مدفوعات الديون الحكومية بقيت لديه احتياطيات قابلة للاستخدام تتراوح بين ستة وعشرة مليارات دولار فقط للحفاظ على الاستقرار.

وتبلغ قيمة الديون، التي يحين أجل سدادها بنهاية العام المقبل نحو 6.5 مليار دولار.

وقال المصرف المركزي، إن الاحتياطي النقدي في 15 أكتوبر (تشرين الأول)، بلغ 38.1 مليار دولار.

وقال مسؤول، إن "لبنان لديه احتياطيات حقيقية تبلغ عشرة مليارات دولار فقط. وأضاف "الوضع في غاية التردي و(أمام لبنان) خمسة أشهر لتصحيح الوضع، وإلا سيحدث انهيار نحو فبراير (شباط) المقبل".

وقد لا يكون أمام حكومة الحريري، سوى بضعة أشهر فقط لتنفيذ إصلاحات مالية لإقناع فرنسا والبنك الدولي والأطراف الأخرى في اتفاق سيدر بالإفراج عن التمويلات المشروطة التي تبلغ قيمتها 11 مليار دولار.

وقال رئيس الاستثمارات الإقليمية في شركة أمريكية كبرى لإدارة الأصول، إن "المسؤولين اللبنانيين يقولون في لقاءات غير رسمية إنه سيتم الإعلان قبل نهاية العام عن خطة لمعالجة انقطاع التيار الكهربائي في الأجلين القصير والطويل، وبعدها سترفع الحكومة الأسعار".

لكن المنتقدين يقولون، إنه لم تتخذ أي خطوات ملموسة رغم التصريحات الصادرة عن وزارة الطاقة بأن الخطة ماضية في مسارها.

وفي الشهر الماضي غادر الحريري، باريس دون تعهد بالحصول على سيولة فورية بعد أن زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبالمثل عاد هذا الشهر من أبوظبي خاوي الوفاض بعد أن التقى ولي العهد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.

وكافح النواب في بيروت لتفسير ما حدث في أبوظبي، بعد أن زعم الحريري أن الإمارات وعدت باستثمارات في أعقاب محادثات "إيجابية".

إضعاف نفوذ حزب الله
يقول المستثمرون والمصرفيون والاقتصاديون، إن "عشرة مليارات دولار على الأقل مطلوبة لتجديد الثقة بين اللبنانيين في الخارج الذين دعموا الاقتصاد على مدار عشرات السنين من خلال الاحتفاظ بحسابات مصرفية في وطنهم".

غير أن الودائع شهدت انكماشاً بنسبة 0.4% تقريباً منذ بداية العام الحالي.

ويرى كثيرون، أن حزب الله الخاضع لعقوبات أمريكية يكتسب مزيداً من السيطرة على موارد الدولة من خلال تسمية وزير الصحة في يناير (كانون الثاني)، بعد أن أدت انتخابات العام الماضي إلى تزايد حلفائه في مجلس النواب.

وقال الرئيس الإقليمي السابق لبنك غربي كبير دون مواربة: "الناس نفد صبرهم على الفساد الذي يعمل فيه ببساطة برلمان متجمد دون أي سلطة على تقسيم الكعكة بين الساسة".

وأضاف "لكن في نهاية اليوم تنجح الطبقة السياسية اللبنانية في العادة في إقناع الحلفاء بأنهم يجب ألا يسمحوا بانهيار النظام وإعادة الحرب الأهلية".

ثقة متضائلة
كان لبنان معروفاً بأنه مركز مصرفي في المنطقة تتدفق عليه الودائع، لا سيما منذ 1997 عندما تم ربط العملة بسعر 1507.5 ليرة مقابل الدولار.

غير أن الأمور تغيرت بعد أن ارتفعت في أغسطس (آب)، وسبتمبر (أيلول)، كلفة التأمين على الديون السيادية اللبنانية إلى مستوى قياسي.

وبدأ المودعون بمن فيهم المهاجرون الذين اجتذبتهم عوائد أعلى كثيراً من المتاح في أوروبا والولايات المتحدة سحب أموال في مواجهة العجز المزدوج المتنامي الذي يعاني منه لبنان والعجز عن الحصول على تمويل من الخارج ومساعي المصرف المركزي غير العادية لجذب التدفقات الدولارية.

وتضاءلت الثقة وسط سكان لبنان البالغ عددهم ستة ملايين نسمة.

ولم يعد بوسع المودعين سحب الأموال بالدولار بسهولة ولم تعد أغلب أجهزة الصرف الآلي تتيح سحب الدولارات، مما اضطر الناس للجوء إلى أسواق الصرف الأجنبي الموازية التي يزيد فيها سعر الدولار عن السعر الرسمي.

وقال وليد البدوي (43 عاماً): "أنا مع المحتجين. عندي ثلاثة أولاد وأنا سائق تاكسي أعمل طول اليوم لأحضر الطعام أطفالي ولا أستطيع الحصول عليه".

وقال رئيس البحوث السابق في المصرف المركزي  غاسبار، إن "الحصول على العملة الأجنبية كان سهلاً حتى أثناء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً. وكان هناك على الدوام فائض في ميزان المدفوعات حتى العام 2011، عندما بدأ العجز يتزايد حتى وصل إلى 12 مليار دولار في العام الماضي".

تهاوي عزم البنوك
عجلت ثلاثة أحداث بأزمة الثقة التي بدت قادمة لا محالة منذ سنوات. وتمثل أول تلك الأحداث في سلسلة من جهود المصرف المركزي منذ 2016 لمواصلة نمو الودائع بأسعار فائدة تتجاوز 11% على الودائع الكبيرة وكان ثانيها زيادة في أجور العاملين بالدولة والقطاع العام في العام الماضي أدت لزيادة عجز الموازنة لأكثر من 11% من الناتج المحلي الإجمالي، وثالثها انخفاض أسعار النفط في السنوات الأخيرة، مما أضعف الحلفاء الخليجيين.

وفي تقرير، الخميس، وصف صندوق النقد الدولي موقف لبنان بأنه "صعب للغاية"، وأضاف أن من الضروري اتخاذ "تدابير جوهرية جديدة" لحمايته وتقليل العجز الضخم.

وقال مصرفي، إنه "مع نضوب الدولار توقفت البنوك فعليا عن الإقراض، ولم يعد بإمكانها تنفيذ المعاملات البسيطة بالنقد الأجنبي لعملائها".

وأضاف المصرفي "دور البنوك كله هو ضخ الأموال للبنك المركزي لتمويل الحكومة وحماية العملة. ولا شيء يحدث في العجز المالي لأن إنجاز أي شيء سيعطل نظم الفساد".

وكانت مقاومة البنوك غير صريحة، لكنها معبرة في ضوء دورها الأساسي في تمويل الحكومة.

فعندما اقترحت بيروت، خفض تكاليف خدمة الدين بمقدار 660 مليون دولار في موازنة 2019، لم توافق البنوك قط على تلك الفكرة. وقال مسؤولون، إن "البنوك فتر حماسها أيضاً للاكتتاب في السندات الدولية، بما في ذلك إصدار مزمع في وقت لاحق من الشهر الجاري بملياري دولار".

وقال غبريل من بنك بيبلوس، إنه إذا لم تتحقق الإصلاحات، فإن "البنوك تتفق على أنه لن يعد بإمكاننا دعم القطاع العام".