لبنانيون يتظاهرون احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية.(أف ب)
لبنانيون يتظاهرون احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية.(أف ب)
الخميس 24 أكتوبر 2019 / 21:04

لبنان.. انتهت الحرب الأهلية

السيل اندفع نحو مختبر الفساد، حيث تعيش الحكومة ويعشش عفن الطائفية

لم تنجح فكرة توجيه غضب اللبنانيين المتراكم ونفاد صبرهم من الأداء البائس لحكوماتهم المتعاقبة، التي حولت عبر عمليات استلام وتسليم، الفساد إلى سلوك رسمي ومتفق عليه وحوله من النخبة السياسية الحاكمة، نحو اللاجئين السوريين وتحميلهم مسؤولية تداعي الاقتصاد في لبنان، وتسببهم بمضاعفة الدين العام، بما في ذلك مشاكل الكهرباء المزمنة وانقطاعها وتوزيعها عبر حصص وجداول، و"مأساة النفايات" التي تحولت إلى فضيحة سياسية وكارثة بيئية في بلد يعيش على السياحة.

لم تنجح فكرة أنهم، دون غيرهم، سبب البطالة واختفاء الوظائف، لأنهم ببساطة يسرقون فرص العمل المخصصة للبنانيين، ويخطفون الخبز من موائد أبناء "البلد"!، وهي الفكرة التي تم تعميمها عبر وسائل إعلام "حزبية"، في مستوى ما عبر قنوات رسمية، تحولت إلى حملة تحريض تشوبها عنصرية صادمة، وتسببت بحوادث مؤلمة بعضها يبدو مدبراً والبعض الآخر جاء نتيجة التحريض والجهل، ثمة صدى لهذه الحملة تلقفه بعض الطائفيين والسذج وكارهي الشعبين السوري والفلسطيني وبقية الشعوب المجاورة، ولكنها، الحملة، لم تحقق هدفها الأساس وهو توجيه الغضب الشعبي نحو مخيمات اللاجئين السوريين الهاربين من بطش النظام في بلادهم وبطش حزب الله اللبناني الذي يسند النظام.

لم تنجح محاولات زج الفلسطينيين ضمن أسباب الأزمة الاقتصادية أيضاً، وبدت القوانين التي اقترحها وزير العمل لتنظيم وجودهم أقرب إلى نكتة سمجة لم يضحك من أجلها أحد.

لم تنجح نظرية "الجينات الخاصة" وبقي صراخ "جبران باسيل" ورغبته المريضة في إعادة انتاج حقبة "نقاء الجنس اللبناني" المضحكة، معلقاً مثل مشنقة فوق مستقبله السياسي، الوزير الذي يحلم بالزعامة لم يقرأ الواقع جيداً، لم ينتبه لجيل ما بعد الحرب وسأمه الشديد من نظريات التميز والرقي و"الانتخاب الطبيعي". لم ينتبه إلى أن العالم أصبح بمتناول هذا الجيل وأنه لم يعد يتلقى ثقافته أو يبني أفكاره عن الكوكب من خلال الاجتماعات الانتخابية ومداخلة قائد الخلية أو زعيم الطائفة.

السيل اندفع نحو مختبر الفساد، حيث تعيش الحكومة ويعشش عفن الطائفية.
غضب انفجر في الشوارع وليس في غرف الأحزاب والقوى. غضب عابر للطوائف والجينات والعنصرية. غضب شامل غطى لبنان وحدود الجماعات ومناطق النفوذ.

هنا تكمن قوة الانتفاضة الشعبية في لبنان، من هويتها الواضحة وطابعها الاجتماعي الذي وحد مختلف طبقات المجتمع اللبناني في مواجهة تحالف أمراء الحرب والسماسرة.

انتفاضة شعبية عابرة للطوائف والمناطقية والطبقات، اقتراح شعبي عارم بهدم مفاهيم النظام القائم على المحاصصة وبناء نظام دولة مدنية حقيقية قائم على المواطنة، دولة لا تتخفى وراء بلاغة الطوائف وابتداع الاختلاف والتميز وأشياء من نوع "قوة لبنان في ضعفه" أو "التعايش" أو "نقاء العرق" الى آخر هذه الحمولة التي فسدت منذ وقت طويل.

ما أنجزه اللبنانيون حتى الآن كثير ومهم، لقد قدموا نموذجهم الحقيقي اللغة واللهجة والزي، لم يستعيروا لا شعارات ولا آلهة ولا تجارب. عرّوا بضربة واحدة نخب الطوائف التي حكمت حياتهم عقوداً طويلة وتغذت على التخويف وبث اليأس وقلة الحيلة. قدموا اقتراحهم لدولة مدنية خارج حصص الطوائف والطبقة التي توارثت أفكار الانتداب الفرنسي وامتيازات العنصرية وموارد الحروب الأهلية المضمرة.

استعادوا ثقة ضيوفهم من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، وشرعوا النوافذ التي تفتح على الشعوب العربية المظلومة التي طالما نظرت نحو لبنان بحثاً عن الالهام، ومنحوهم الأمل.

ليس سهلاً إعادة بناء الدولة، وليس متوقعاً استسلام الائتلاف الحاكم الذي تغذى على النظام ومفهوم المحاصصات الطائفية، وسيضع البعض أحلام الناس وتحركهم في تناقض مع "المقاومة" وستوفر البلاغة الملائمة لذلك.

سيكون الطريق شاقاً وطويلاً، ولا ينبغي تحميل الانتفاضة والناس الذين اندفعوا نحو الشوارع والساحات كل هذه الأعباء وتحديد المواعيد وحساب الوقت للتغيير واستعجال النتائج، ولكنهم، دون شك، أنهوا بضربة واحدة الحرب الأهلية وأسبابها، وفككوا بنية الخراب ونقلوه من قبو الزعامات الى الرصيف.