تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 25 أكتوبر 2019 / 19:30

كيف انتهت العبودية

أطلق جون كاي للتو الشرارة الأهم ربما للثورة الصناعية، فاخترع المكوك الطائر، وهي آلة الغزل الميكانيكية للنسيج

لطالما تخيلت تلك اللحظات الفارقة التي استيقظ خلالها الضمير البشري، فقرر وضع حد للعبودية. أتصوّرها –كأفلام ديزني- مليئة بنظرات الدهشة، وسكون الصدمة، ودموع الندم. ولا بأس بأن يعزف الكمان لحناً حزيناً في الخلفية بينما يُعانق جون الأوروبي عبده الإفريقي، فيعتذر إليه بحرقة عن عقود من الاضطهاد والقمع.

"كات". انتهى المشهد. ليعد الممثلون إلى مقاعدهم خلف الكواليس بينما أستعرض لكم ما حدث فعلاً.
المكان: بريطانيا
الزمان: 1733

لقد أطلق جون كاي للتو الشرارة الأهم ربما للثورة الصناعية، فاخترع المكوك الطائر، وهي آلة الغزل الميكانيكية للنسيج.
بدأ السباق من هناك بين أيادي الآلات وأيادي العبيد، والذين -لحكمة إلهية اتضحت لاحقاً-، تعرّضوا لخسارة أليمة، فالآلات أكثر انتاجية وسرعة وجدوى اقتصادية منهم. فرضت هذه الآلات الرائعة على العبيد إجازة قسرية عن العمل، خصوصا بعد اختراع الآلة المُستخرجة لألياف القطن. حينها، فاض العبيد عن الحاجة، ولم يعد من داع لهم، وهو أمر لم يعني بالنسبة للمُلّاك البيض المساكين سوى هدرا للمال.

خطوة بخطوة، أرسى الاقتصاد قوانينه الجديدة حتى مُنعت العبودية كلياً، وصارت تعتبر إحدى أقبح الفصول في تاريخ الأمم والشعوب، والملهمة الدائمة للروايات الملحمية، والأفلام الأوسكارية.

تذكرت هذه القصة حينما أعلن العلماء في جامعة هارفارد عن تحقيقهم لقفزة مذهلة في "صناعة" اللحوم مختبرياً دون الاضطرار إلى قتل الحيوانات. لقد استخدموا خلايا الأبقار والأرانب، والتي وُضعت على قاعدة جيلاتينية، ثم تم "تمطيطها" حتى أصبح لها قوام شبيه بالألياف العضلية الطويلة للحوم. ومع التجارب، من المأمول أن يفلح العلماء في الاقتراب حد التطابق من تقليد بُنية ونكهة اللحم الطبيعي، بالإضافة إلى إنتاج اللحم المخبري بكميات وفيرة جدا، وأسعار مناسبة.

أتفهمون ماذا يعني ذلك؟
دعوني أقدّم لكم جرعة مرة من الواقعية.

لا أُنكر بأن أوروبا القرن الثامن عشر كانت تحتوي على الداعين إلى تجريم العبودية من منطلق إنساني بحت رافض للظلم والاضطهاد. ولكن أوروبا القرن الثامن عشر تود تذكريكم بأن المال –للأسف- حافز أقوى من أرقى الشعارات الإنسانية، وواعظ أصدق من جميع الصور والفيديوهات التي تنتشر حاليا لتوثّق المعاملة الوحشية للخراف والمعز.

بكلماتٍ أخرى، لن تنتصر قيمكم ومبادئكم حتى "تنهزم" حيوانات المزرعة اقتصاديا أمام رخص وجودة وسهولة صناعة اللحم المختبري، وتغدو نقمة مادية مكلّفة على مُلاكها.

وحينها أعدكم بأن استهلاك الحيوانات سيصبح بقدرة قادر فصلا دموياً مريعاً من تاريخنا البشري، يقرأ عنه أحفادنا باشمئزاز في مناهجهم، متسائلين كيف كانت ضمائرنا الميتة تغمس "التشكن نقتس" في الصلصات!

بل حتى مطاعم الوجبات السريعة التي تكذب علينا الآن بشأن استخدام لحوم العجول الطرية، ستضطر –للمفارقة- إلى الاعتراف والافتخار بعبثها بأقراص البرجر في المختبرات، فقط لتتخلص من وصمة العار المقترنة بقتل الحيوانات.
هذا تحدٍ بيني وبينكم، فاحفظوا المقال لتتيقنوا من صدق توقعاتي.