السبت 26 أكتوبر 2019 / 20:53

لبنان يولد من جديد

لا شيء يصف لبنان في هذه الأيام، كما يصفه "صوت لبنان الأوحد" السيدة فيروز وهي تغني: "سألوني شو صاير ببلد العيد.. مزروعة على الداير .. نار وبواريد.. قلت لهم بلدنا عم يخلق جديد.. لبنان الكرامة والشعب العنيد".

الأحوال الاقتصادية والسياسية قد ساءت بلبنان في العقد الأخير حتى وصلت لحد لا يطاق، فخرج الناس إلى الشوارع مُكرَهين مُعلنين عن مطالبتهم بالحياة الكريمة التي يستحقها كل إنسان. الشعب اللبناني وصل إلى حد اليأس من حل المحاصصة الطائفية، ذلك الحل الذي أدى إلى نهاية الحرب الأهلية، هذه فضيلة لاتفاق الطائف لا يمكن لأحد إنكارها، لكن هذا الحل قد تحوّل إلى مشكلة من نوع آخر، مشكلة عميقة تغلق الأفق أمام الحلول المستقبلية.

لقد قام في لبنان ثلاثة أهرام، كل هرم منفصل عن الآخر، ولكل هرم قمة وقاع، وكان الذي في القاع يهتف وهو في أشد حالات فقره وعوزه ومرضه للذي في القمة، خصوصاً عندما يشتمه أحد ممن يقيمون في الهرمين الآخرين، كان هذا بالأمس، أما اليوم فلم يعد الفقير مستعداً لأن يهتف باسم أحد وهو لا يقدر على وضع الطعام على الطاولة.

النزاع والصراع على الهيمنة بين قمم الأهرامات الثلاث أدى إلى تعميق جذور الطائفية في لبنان الحضارة، ودمّر كل شيء فيه، وعزز مواقع الطوائف الثلاث التي تتحارب فيما بينها على السلطة وتتحالف في الوقت نفسه، ليبقى الوضع على ما هو عليه، الفقير يزداد فقراً، والغني يزداد غنى. ثم ازداد الوضع سوءاً بهيمنة دولة إقليمية هي إيران، ودعمها لحزبها الذي حلفت غير مُصدّقة على أنه "حزب الله" دون إبراز أوراق ثبوتية تدعم هذه النسبة وذلك "الحق الإلهي".

انتفاضة لبنان اليوم مختلفة، لا يشبهها شيء سوى معاصرتها "الانتفاضة العراقية" غير أن المتوقع هو أن تحرر لبنان من الطائفية سيكون أسرع. إنها انتفاضة لا يقودها زعيم معين ولا طائفة محددة، وهذا جيد، بل يقودها الكافرون بالطائفية. أناس سئموا حد المرض من كل ذلك التلاعب بالدين والطوائف والأعراق، أناس يريدون حكومة تُصلح أوضاع البلد "الاقتصادية" بدرجة أولى، وتخلصه من الهيمنة الإيرانية، أناس لا يهمهم من سيحكمهم، سواء كان مسيحياً أم مسلماً ما دام أن حكومته ستصلح الأوضاع وتجعل الحياة "ممكنة".

الكل يعلم أن ما يحتاجه لبنان هو حكومة تكنوقراط، لا حكومة طوائف. الحكومة التكنوقراطية في يومنا الحالي مصطلح يستخدم للتعبير عن شكل من أشكال الحكومة هي حكومة الكفاءات، أو هي حكومة التقنيات التي ظهرت مؤخراً نتيجة التقدم التقني. حكومة غير حزبية، وأعضاؤها كذلك، فهي حكومة متخصصة بالأمور الصناعية والتجارية والاقتصادية فقط، وتعنى بتوظيف الكفاءات على أساس المعرفة التكنولوجية بغض النظر عن أية انتماءات سياسية أو دينية أو عرقية. الكل يعرف أن هذا هو الحل، لكن الطائفية لا زالت راسخة في لبنان ولها أناسها الذين سيقاتلون من أجل سواد عيون رموزها. هؤلاء الرموز قد أعلنوا بالأمس، كلهم، أنهم مع انتفاضة الشعب اللبناني. لكثرة تصريحاتهم المؤيدة للإصلاح برز سؤال "خبيث": إذا كان كل هؤلاء مع انتفاضة اللبنانيين، إذاً فعلى من قامت الثورة؟!

المفتاح في جملة "كلما ازداد عدد الكافرين بالطائفية، كلما ازدادت فرص لبنان في الخروج من المأزق". ليس لنا أن نتوقع معركة سهلة وأحلاماً وردية، لكن يبدو أن المواطن اللبناني قد اختار الحل الذي لا يختاره أحد إلا بعد أن يطفح الكيل، وهو ذاته الحل الذي لا رجعة عنه بعد وقوع الاختيار.