السبت 26 أكتوبر 2019 / 21:04

الحالة الاجتماعية العربية بين الأبوة والأبوية

حين يتقاعس الأب عن أداء دوره حيال أسرته، يصيب بنيانها الاجتماعي والنفسي في مقتل، حتى لو تيسرت لها سبل الإنفاق من مصادر أخرى بعيدا عن عقل الأب وساعده، أو بمنأى عن الجهد العضلي والعقلي المطلوب منه بذله في سبيل توفير حياة كريمة لمن يعول, لأن المال المعطى للأبناء بدافع ترتبه مسئولية الأبوة يختلف عن مثيله الممنوح مقابل العمل، أو ذلك المردود إلى الإحسان.

على النقيض من هذا حين يفرط الأب في هذه الإعالة فيتعدى بها حدود دوره الطبيعي والاجتماعي، ليمارس تحكما كاملا في كل شيء، ويطيب له قهر الزوجة والأبناء، ويتصرف طيلة الوقت على أنه هو من يعلم صالح الجميع، وأن حدود أدوارهم في الحياة يجب أن يرسم هو معالمها، ويدير سيرها أو مسلكها، الذي يعتقد هو بالضرورة أنه تقدم إلى الإمام، فإن هذا من شأنه أن يخلف ضررا بالغا للأسرة، إلى درجة أن بعض أفرادها يحسدون أقرانهم ممن يعيشون في كنف أب متقاعس أو متساهل، أو في ظل تفلت كامل في كنف أسرة منحلة، أو لاأسرة.

والفضيلة في هذا، كما تتجلي في أشياء كثيرة، هي منزلة بين منزلتين، أي ما بين "التقاعس" و"الإقحام" أو "التفريط" و"الإفراط"، فلا تجور الإعالة على الاستقلالية، ولا يقتل الحرص على متابعة حياة الأبناء حريتهم، ولا يؤدي التدخل في تفاصيل حياتهم اليومية وترتيب كل شيء فيها بداعي أن "الأب يعرف أكثر" إلى صناعة عقول كسولة تابعة خاضعة مستلبة، تنتظر دوما من يفكر لها، ويقرر نيابة عنها, ثم يلزمها بقراره دون نقاش.
علينا ابتداء أن ندرك أربعة أمور مهمة، قبل فحص ما آل إليه وضع الأبوية في مجتمعنا، وعما إذا كانت قد تأثرت بالتطورات التي شهدتها حياتنا في العقود الأخيرة من عدمه:

أولا: إن النظام الأبوي ضارب بجذوره في أعماق التاريخ الاجتماعي، وهو مرتبط في تصور كثيرين بنزعة "الهيمنة الذكورية" التي تؤمن بحتمية بيولوجية تفرض وجود المرأة زورا في مرتبة ثانية أو ثانوية في كل الأحوال، لأن جسدها ونفسها لا يؤهلانها إلا لهذا فحسب، ولذا فعليها أن تخضع للرجل. وجاءت تصورات دينية لتؤكد أن هذا يمثل إرادة كونية، وقدمت تبريرات لذلك الخضوع. وردت الحركة النسوية على هذا، وقدمت أدلة مضادة من التاريخ الاجتماعي والتصورات الدينية، أرادت من خلاله إثبات أن العائلة ليست نبعا حيويا للراحة والأمان والألفة والود وحسن الصحبة والانسجام والتناغم والتفاهم، بل هي مصدر للاستغلال والوحشة واللامساواة العميقة أو انعدام التكافؤ، والإيذاء البدني للزوجات والأطفال.

ثانيا: يُنظر إلى "الثقافة الأبوية" وإن كانت لفظا مسنودة أو محالة إلى "الأب" بالمعنى البيولوجي، على أنها مسألة تتجاوز هذا إلى المعنى "الثقافي" و"السياسي" الذي أنتج اصطلاح "البطريركية" في أدبيات علم الاجتماع السياسي على وجه الخصوص، وهو يعني قيام فرد أو جماعة أو منظمة أو سلطة أو نظام سياسي أو دولة بالاعتقاد في أنها تفهم وتقدر مصلحة الأشخاص والمجتمع، وعلى الجميع أن يثق فيها، ويسلمها أمره، ويسقط من ذهنه ونفسه كل ما يتعلق بحقه في اتخاذ قرار مستقل، أو تقرير مصيره بيده، لأن في هذا ما يعود عليه بالنفع.

ثالثا: إن "الأبوية" أصبحت اقترابا اجتماعيا ونفسيا صالحا لتفسير مستوى "التنمية السياسية" في بعض المجتمعات. ولعل ما قدمه هشام شرابي في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" يعد مثالا واضحا على هذا الاقتراب، حيث تعامل مع الأبوية على أنها نظام اجتماعي يرتكز بالأساس على العادات والتقاليد نظرا لأن أكبر الذكور أو الأب أو الأهل يمارس سلطة على الزوجة و الأبناء، لاسيما الفتيات، فيما يحظى الأخ بسلطة على أخته أو والدته في بعض الأحيان، ويمتد هذا إلي السلطة السياسية.

رابعا: هناك فرق بين "الأبوة" Fatherhood والأبوية Paternalism، فالأولى تتعلق برجل يمكن من خلاله تتبع روابط الانتساب، أو تنقل عبره حقوق الملكية، أو يمنح طفلا عضوية اجتماعية كاملة. أما الثانية فهي تخص علاقة اجتماعية يتبنى فيها الطرف المسيطر اتجاهات وممارسات يفرضها على من حوله من رعاياه، ولها مظاهر وجود متعددة في الواقع، مثل علاقة الزوج بزوجته، وصاحب العمل والعامل، والسيد والعبد، والحاكم الطاغية بشعبه. ويعتقد أن هذه العلاقة تخدم مصالح الرجال في وجه النساء، والطبقة المهيمنة في مقابل الطبقة العاملة، والعنصر الذي يتوهم السيادة في وجه عنصر يرميه بالعبودية.

وإذا كانت الأبوة مطلوبة كدور اجتماعي، لا فكاك منه أمام الرجال الأسوياء الراغبين والقادرين على أن يعطوا الحياة مددا، بالحفاظ على النسل، وتربية أجيال متلاحقة، فإن الأبوية كمنزع للتسلط، ملفوظة، بدءا من الأسرة وانتهاء بالدولة مرورا بتنظيم المؤسسات الرئيسية في المجتمع.

ومع هذا، ليس من الإنصاف أن نربط الأبوية بالرجال فقط، ففي بعض الأسر، التي تقودها نساء من المطلقات والأرامل، تلعب المرأة الدور نفسه، منطلقات أحيانا من شعور جارف بالمسؤولية المضاعفة عن الرعاية والتربية والتوجيه، في ظل غياب الرجال أو تقاعسهم عن أداء دورهم لأسباب عدة، بعضها يتعلق بالنزاع الأسري. وفي أسر أخرى يطغى دور المرأة إلى حد كبير، وهي مسألة برهنت عليها دراسات اجتماعية أجريت على مختلف المجتمعات البشرية، بما فيها المجتمعات التقلدية التي يعتقد كثيرون، للوهلة الأولى، أن النساء فيها يعانين من اضطهاد أو تمييز شديد، فإذا بهن يسيطرن على مصير الأسرة كاملة، وأحيانا العائلة، مثلما تفعل الجدات الطاعنات في السن، حين تتصرفن باعتبارهن مصدر الحكمة والإلهام والمصلحة والخبرة والإلمام بتاريخ العائلة الممتدة، مما يعطيهن قدرة على إصدار أوامر للأبناء والأحفاد، وعليهم تنفيذها.

وفي كل الأسر تقريبا تتجاور وتتفاعل "الأبوة" مع "الأبوية"، فبينما تكون الأسرة هي وحدة اجتماعية إنتاجية تقوم على علاقات التعاون والود والالتزام بفعل ضرورات الاعتماد المتبادل، واستعداد كل فرد فيها على بذل قصارى جهده في سبيل سد احتياجاتها، فإنها في الوقت نفسه هي أبوية حيث تتمركز السلطة والمسئوليات والامتيازات والانتساب في يد البعض أو شخص واحد، وهي هرمية على أساس الجنس والعمر والتنشئة الاجتماعية اللذين يفرضان تدرجا في المكانة والهيبة وحق إصدار الأوامر.

كما أن "الأبوة" التي يمكن أن تخالطها "أبوية" ليست لصيقة بالأب، أو الأم المعيلة، فحسب، بل إنها تمتد إلى الأبناء، فمع تقدم العمر بالوالدين يتسلم الأبناء الراية، وتتسع مسئوليتهم عن الأسرة، في الإنفاق والرعاية، وهي مسألة يدركها الأب تماما، حين يطلق على ابنه الأكبر صفة "العكاز" ويناديه أحيانا بأنه "السند". ويتعايش هذا الوضع مع الرؤية المختلفة ذات الطابع المتشائم التي ترى أن كلمة "الأسرة" مردها "الأسر" أي الحبس والاستعباد، في مقابل أخرى تعيدها إلى مفاهيم التآزر والتناصر والتضامن.

ويجب علينا ألا نجعل رفضنا للأبوية، وهو مسألة ضرورية على كل حال، يمتد إلى الجور على دور "رب الأسرة" أيا كان، الأب أو الأرملة أو المطلقة أو الابن الأكبر، في أمرين: الأول هو أن يراقب مردود ما ينفقه على أسرته ويقيمه طيلة الوقت، من منطلق القاعدة التي تقول: "الذي ينفق من حقه أن يسأل". والثاني هو أن يقوم بما عليه من مساهمة في قيام "الضبط الاجتماعي"، الذي يبدأ بالتوجيه والنصيحة، وينتهي بالعقاب تحت راية الأسرة، وهو ليس العقاب البدني بالطبع، إنما الاستهجان واللوم والتوبيخ وصولا إلى الحرمان من الهدايا والمصروف .. الخ.

لكن التطور الاجتماعي لم يجعل "الأبوية" حكرا على "رب الأسرة"، بل ظهرت لها منابر ومصادر أخرى، فالقائمون على المدارس من النُظَّار والمديرين وكبار المدرسين، لم يلبثوا أن مارسوا هذا الأمر معتبرين إياه حقا، لاسيما مع إيمان المدارس بأن دورها لا يجب أن يقتصر على التعليم، بل يمتد إلى التربية أيضا. فبعض هؤلاء تصرف طيلة الوقت على أساس أنه يعرف صالح التلاميذ والطلاب، وأن عليهم أن ينصاعوا لإرادتهم، وأن نقاش ما يصدرونه من أوامر هو نوع من التمرد أو على الأقل عدم اللياقة.

وجاءت وسائل الإعلام التقليدي لترمي بثقلها على هذا الدرب، حين قدمت إلى الجيل الجديد شخصيات صارت قادة للرأي في المجتمع، وبعض هؤلاء انزلق في أداء دوره إلى أبوية ما، لاسيما في أيام الأزمات السياسية والاجتماعية، مقدما بعض نصائحه حول ما يراه "الواجب الوطني" أو "الفرض الديني". واستمر الأمر بنسبة ما مع الإعلام الجديد، لكن مواقع التواصل الاجتماعي، أعطت الأجيال الحالية مساحة للتعبير عن آرائها، وقدرة على التمرد، والبحث الحر والذاتي عن المنابر التي يمكن متابعتها، والتعلم منها، ما أدى إلى تراجع الأبوية تباعا، تحت وطأة التفكير الشبكي الذي صارت الأجيال الجديدة تجيده، بحكم تفاعلها الشديد من وسائل التواصل المعاصرة، التي لا تكاد تنتهي دوائرها ودواخلها المتلاحقة.

وهناك مؤسسات تقليدية مستمرة في ممارسة أبويتها على الأفراد المنتمين إليها بلا توقف، لأنها تعتبر هذا المسلك جزءا أساسيا من أسباب وجودها واستمرارها، وتتصور أن تهاونها في هذا الأمر يعني تفككها وانهيارها، ولهذا فهي تقوم بأمرين متزامنين لضمان تحصيل ذلك: الأول هو تهيئة الفرد الداخل إليها لتقبل الانقياد أو الانصياع والطاعة العمياء، عبر ملء رأسه بأفكار تنبع من نسق متكامل لديها، تزعم أنه مطلق، أي لا يقبل النقاش والجدل والمساءلة والمراجعة. والثاني هو تدريب هذا الفرد، الذي يعتقد أن إرادته الحرة هي التي قادته إلى الانتماء إلى تلك المؤسسات، على تقبل تلك الطاعة، عبر برنامج موضوع بعناية، استفادت منه هذه المؤسسات من خبرتها الذاتية تارة، ومن خبرات مثيلاتها عبر التاريخ العربي ـ الإسلامي طورا، وكذلك التنظيمات الأخرى التي عرفها العالم وكانت تسيطر عليها أيديولوجيات مصمتة أحادية.

وهذه المؤسسات ليست كتلك المتعارف عليها إداريا، والتي تخضع لهرمية تتسم بالمرونة، وتتطلب وجود نقاش داخلي وصعود الآراء من أسفل إلى أعلى مقابل هبوط الأوامر من أعلى إلى أسفل، إنما هي تنظيمات عقائدية صارمة، يصدر الجالسون على رأسها أوامر لأتباعهم، وليس أمامهم سوى "السمع والطاعة".

وبينما ترى المؤسسات الإدارية والاجتماعية والسياسية الطبيعية أن وجود تغذية ارتجاعية أو مرتدة بين القاع والقمة يسهل عملها، فإن التنظيمات الدينية المتطرفة لا تعتقد في فائدة هذا أصلا، بل ترى أنه يعطلها عن أداء مهامها، لاسيما إن كانت تمارس عملا سريا أو عنيفا، أو الاثنين معا.

لهذا لا يكون أمام هذه التنظيمات من سبيل سوى ممارسة "أبوية طاغية"، تبدأ برأس الجماعة أو أميرها أو مرشدها الذي معه "الأبوية الكاملة" ومنه يستمد الصف الأول من القيادات أبويات فرعية، فقائد الشعبة أو الفرقة أو المجموعة أو السرية له أيضا حق الطاعة، المشروط بقواعد صارمة لا تقبل النقاش أبدا.

ومع هذا يتمتع ذلك النوع من الأبوية بقبول لا يتأتي للأبوية الأسرية أو حتى للأبوية السلطوية، فداخل الأسرة هناك مشاعر وتصورات تجعل الصغير ينتظر عطفا من الكبير، وداخل النظام السياسي مهما كانت درجة شموليته أو استبداده هناك فهم ومعرفة بالحقوق والواجبات، ولو في حدها الأدنى عند فئات واعية من الشعب، تجعل البعض يتمرد على الأبوية، والكل يفهم أن قبوله لها، إن كان هذا، هو نوع من القهر، أو الخضوع للأمر الواقع، انتظارا للحظة الانقضاض عليها، أو الانفضاض منها، وتغييرها.

أما داخل التنظيمات الدينية أو الأيديولوجية المتشددة فإن الفرد يعتقد أن تنازله عن حقه في رفض الإملاءات أو الوصاية هو جزء من واجباته حيال التنظيم، تحت شعارات من قبل "الكل في واحد" و"إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" و"المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله"، دون امتلاك الحق في التساؤل عما إذا كان الأمير أو المرشد جدير بالطاعة الكاملة أم لا، والأهم ما إذا كان كل ما يراه ويقوله ويأمر به جديرا بالسمع من عدمه.

إن هذه هي أشد أنواع "الأبويات" ضررا، لأنها لا تستند بالأساس إلى توهم "الأب" أنه يعرف أكثر، ويغير أكثر على الصالح العام، وينزع دوما إلى ما فيه الفائدة، فكل هذه، في حالة الأسرة الاجتماعية، أو العائلة، أو حتى الحزب القائم على الزعامة، وكذلك الدولة، قد تكون بالنسبة لأي من الأفراد التابعين، أو بعضهم، مجرد تخرصات أو مزاعم، لكنها ليست كذلك أبدا في حال التنظيمات الدينية، لأنها تلبس لبوس القداسة. فالأب الكبير المزعوم هو وكيل السماء، أو حارس الدين، أو راعي الدعوة، أو المرشد العام لها، أو أمير الجماعة التي تعمل من أجل ما يريده الله، وبالتالي فإن الخروج على هذه الأبوية هو خروج على الدين ومفارقة الجماعة، وفي أقل حالاته هو فسق أو فجور أو تفلت، عواقبه أوخم من عواقب من يتم اتهامه زورا من قبل الأبوية السياسية العادية بأنه نقص في الوطنية، أو خيانة للوطن.

وهذا النوع من "الأبوية" هو أخطرها، لسبب بسيط، هو أنه يتمكن طيلة الوقت من تطويع الوسائل والوسائط الحديثة لخدمة أهدافه ومسلكه التقليدي، فيستخدم أحدث ما جادت به تقنيات الاتصال في ترويج وترسيخ مسألة الطاعة العمياء، التي تبرز في أعلى صورها عند أولئك الذين يتلقون أوامر أو حتى إيحاءات عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) لينفذوا عمليات إرهابية، بعضها قد يكون عمليات انتحارية، يضحون فيها بأنفسهم.