لبنانيون يشاركون في السلسلة البشرية أمام صخرة الروشة في بيروت.(أف ب)
لبنانيون يشاركون في السلسلة البشرية أمام صخرة الروشة في بيروت.(أف ب)
الأحد 27 أكتوبر 2019 / 19:58

لبنان وعودة الروح

في الموسيقى والغناء والشعار واللغة، وحتى في لغة الجسد، وعيون الناس، ما يشبه عودة الروح، وإعادة الاعتبار إلى الروح الوطنية الجمعية العابرة للطوائف، والمتعالية على الميليشيات

كان لبنان، دائماً، إلى جانب حدوده السياسية، ومكوّناته السكانية، فكرة تتعالى على، وتتجاوز، هذه وتلك، أيضاً. ومنذ الاستقلال أصبحت فكرة لبنان عن نفسه، وطريقة التعبير عنها، من مصادر قوّته الناعمة من ناحية، ونقطة تماس ساخنة بين تصوّرات واستيهامات مختلفة وغالباً متضاربة من ناحية ثانية. وهذا ما نجمت عنه مآزق لم يخرج لبنان منها بعد.

وعلى الرغم من فيض التعريفات إلا أن أحداً لن يتمكن من تعريف فكرة لبنان. ففي مجرد القول إن ثمة قائمة طويلة من التعريفات ما يعني صعوبة العثور على تعريف واحد مُوَّحدٍ ومُوِّحد. فلبنان سعيد عقل يختلف عن لبنان أنطون سعادة، ولبنان القوميين العرب، على اختلاف تسمياتهم، يختلف عن لبنان الطوائف على اختلاف تسمياتها.

لكل واحد من هؤلاء، بطبيعة الحال، تعريفاً لما ينبغي لفكرة لبنان أن تكون، وعلاقة لبنان بالإقليم، والعالم، ووظيفته فيه. وقد ساورت هؤلاء، كل على طريقته، أوهام تعميم تعريفه الخاص على الآخرين، كما أسهم هؤلاء، كل على طريقته، في إشعال نيران حارقة هنا أو هناك، وفي الحيلولة دون تحويل لبنان إلى وطن عادي يسكنه بشر عاديون ويختصمون فيه على أشياء دنيوية، تماماً، وغير متسامية ولا متعالية، من نوع حل مشكلة النفايات، مثلاً.

بيد أن ما يصدق على الآخرين، في هذا الصدد، يصدق على لبنان، أيضاً. ففي زمن صعود القومية، وإنشاء الجماعة المُتخيّلة، يُمارس الناس الانتخاب والإقصاء فيستحضرون، كما في التحليل البديع لبندكت أندرسون، عناصر تاريخية مُعيّنة ويُعيدون تأويلها بطريقة جديدة لتخليصها من السلبيات، ويمكنهم ابتكار وتوليف عناصر جديدة، أيضاً. وفي سياق كهذا يختلط الواقع بالأسطورة. وكلاهما متغيّر مع تغيّر الحاجات والأزمنة.

لذا، ومع وضع الزوائد والتلفيقات والأوهام الأيديولوجية جانباً، كان في كل ما قيل عن فكرة لبنان ما يُلامس، بهذا القدر أو ذاك، جانباً من حقيقة من نوع ما، سواء ما تعلّق منها بحوض المتوسط وحضارته، أو الخصوصيات الشامية والعروبية. ولا يمكن، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالذاكرة التاريخية، غض النظر عن خصوصية بيروت، التي كانت عاصمة رئيسة من عواصم التنوير والإحياء القومي في العالم العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر.

نجم الكثير من الزوائد والأوهام الأيديولوجية، والتطرّف في التعبير عنها، عن عيوب بنيوية في صميم توليفة الاستقلال السياسية، وعن التواجد في قلب الصراع العربي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، وعن تقاطع الإقليمي والقومي، في الزمن الناصري، وعن وجود جار قوي في دمشق لم يقبل إلا على مضض حقيقة أن لبنان يمثل كينونة مستقلة، ولم يتنازل عن طموح فرض الوصاية عليه.

وقد أدى اجتماع عوامل الضغط هذه إلى انفجار الحرب الأهلية، التي استمرت قرابة خمسة عشر عاماً، وكانت كارثية تماماً، وتوقفت بصورة شكلية، فقط، بعد تسوية أنجبت الطبقة السياسية الحالية، وأدت في السياق إلى سيطرة عسكرية مباشرة من جانب الجار السوري حتى 2005، وغير مباشرة عن طريق حزب الله هذه الأيام، الذي يمثل القوّة الإيرانية، أيضاً، والذي حوّل الدولة اللبنانية نفسها إلى رهينة لديه.

والواقع أن فكرة لبنان تآكلت نتيجة الحرب الأهلية، وما وسمها من بشاعة، وفقدان المعنى، والسيطرة المباشرة وغير المباشرة لقوى خارجية، وتحالف الطبقة الحاكمة، وتركيبتها الطائفية، وانفصالها عن الغالبية العظمى من الناس، واقتسامها للمنافع والمصالح على الرغم من خلافات شكلية بينها. ومع تآكل فكرة لبنان، التي تلاشى الكثير من بريقها الأيديولوجي، فقد لبنان الكثير من مصادر قوّته الناعمة، وبدا وكأنه يعيش حالة تحلل بلا أمل في الخلاص.

وعلى ضوء هذا كله، يمكن القول، بلا كثير مجازفة، إن في الثورة اللبنانية الراهنة على النخبة الحاكمة ما يتجاوز خصوصية المطالب الاقتصادية والسياسية، ومدى قدرة المتظاهرين على تحقيق مطالبهم. ففي الموسيقى والغناء والشعار واللغة، وحتى في لغة الجسد، وعيون الناس، ما يشبه عودة الروح، وإعادة الاعتبار إلى الروح الوطنية الجمعية العابرة للطوائف، والمتعالية على الميليشيات، والتحيّزات السياسية والأيديولوجية، وبهذا تغتني فكرة لبنان عن نفسه، وفكرة الآخرين عنه، بعناصر أكثر جدية وجدوى وواقعية من أوهام كثيرة.