القدس (أرشيف)
القدس (أرشيف)
الخميس 31 أكتوبر 2019 / 20:47

العربية كلغة "مُجرّمةَ" *

"اللغات المُجرمةَ"، المنبوذة والمطاردة والمغيبة والمنفية، موضوع عابر للزمن، ومُركب، وغالباً ما ارتبط بانكسارات الإنسان وخساراته وهجرات الشعوبِ المغلوبة.

إقصاءُ اللغةِ هنا هو إقصاءٌ لخطابِ الآِخَرِ، للذاكرةِ الأخرى، للروايةِ الأخرى التي تحاولُ أن تقدمَ وقائعَ مختلفةً

بقدرِ ما يبدو هذا القول قاسياً يبدو حقيقياً. تحطيم اللغةِ، أي لغة، هو تبديد لجزء من عقلِ البشريةِ وذاكرتها، وسيترك ثغرة مؤلمة في الروايةِ. ثمةَ ما سيبقى ناقصاً وتصعب استعادته.

التاريخ البشري يمتلِئ بسلسلة طويلةٍ من اللغات التي تعرضت للهدم والإقصاء والنفي، أو تلك التي جرى إغراقُها في الشكوكِ ودفعها نحو الظلام.

لكنني أفضل هنا أن أقدمَ ما يشبه نموذجاً معاصراً ومعاشاً، أقرب إلى بث حي يتواصل تحت أعينِنا منذ عقودٍ.

على نهرِ الأردنِ، وفي الضفة التي يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي، ستجد بمجرد نزولكَ من الحافلة، تحت بصرِ الجنود وأسلحتهم، جسدك وهو يتحول موضوعاً للشك وحقلاً للريبة، ستجد بينما تُجرد من مقتنياتك وملابسك، أنك تجرد من لغتك أيضاً، كما لو أنهم يحاولونَ منعها من الدخول، أو تفتيشها مثل أي بضاعة محرمة عليك أن تدخل دُونها.

يصر الجنود والمجندات على مخاطبتك بعبرية لا تفهمها، بينما يجري انتقاء عدد محدد من الكلمات المنطوقة بالعربية لتوجيهِ الأوامرِ:

"تعال"، التي تتحول عبر النطقِ المنقوص إلى استدعاءٍ عدواني.

"اجلسْ"، حينَ تصل الريبة إلى درجة أعلى، وعليك أن تنتظر.

"قف هناك"، أنت متهم الآنَ.

تتحول الكلماتُ العربية المنطوقة بمهانة هنا، ودونَ أدوات الوصلِ التي تمنحها تلك المسحة الأخلاقية، وسيلةَ اضطهاد قاسية ومتغطرسة ومتخيلة. بحيث تبدو تحت ضغط اللكنة، المستندة إلى لغاتِ أخرى، أوروبية غالباً، ورغبة التسلط والترفع التي تصاحب نُطقَها، بدائيةً وأشد قسوةً.

لقد جرى شق اللغة واستخراج هذه المفردات، وإعادة إنتاجها بما يتناسب مع النزعة المتعالية لجنود مسلحينَ يحيطون بمسافر أعزل، ولغة مطوقة بالشك، وإلقاء بقية جسدها الذي تراكم وحفظ على مدى مئات السنوات.

القسوة قادمة من النظر بعدائية إلى اللغة نفسها وليس إلى الشخصِ المخاطب فقط، التي تتبدى بطريقة النطق وحركة الجسد المبالغ فيها على نحو مقصود، المصحوبة بالسلاحِ المهيأ، بحيث تجعل من كل مفردة مساحةَ إهانة للغة نفسها وحلقةَ حصار ضيقة للناطق بها.

"الكراهيةُ" التي تغذت جيداً على المخيلة الاستشراقية، وصورة العربي التي رسمتها تلك المخيلة، وتدحرجت خلال قرن من المواجهة و"التجاهل" إلى "عنصرية مضمرة" ثم إلى "برامج سياسية"، وأخيراً إلى منظومة نصوص قانونيةٍأنشأها "نظام برلماني ديمقراطي"، تتجمع هنا كفرقة إعدام.

لم تتوقف محاولات إخراج الفلسطينيينَ من الجغرافية منذ نهاياتِ القرن التاسع عشر، لقد جرى نفيُهم مقدماً عبر ترانسفير نظري، تحول في أوروبا بدايةَ القرن الماضي إلى حقيقة، عندما وصفت فلسطين بأنها "أرض بلا شعب" وقدمت نقطة خالية في الكوكب.

لكن هذا التغييب سيبقى ناقصاً وأقل إقناعاً لأنهم يظهرونَ بقوة في التاريخ، ولأنهم يتحدثونَ أيضاً.

نفي اللغة وإقصاؤها يقعان في القلبِ من عملية التغييب المتواصلةِ هذه، في سياق نفي صاحب اللغة من التاريخ، بعد دفعهِ خارج المكان.

النفي من التاريخ يأتي أولاً عبر نفي الروايةِ، تحديداً عبر تجريم اللغة التي تحمل هذه الروايةَ. وهي هنا اللغة العربية، وإحاطتها بالشكوك، اللغة التي يستطيع الفلسطينيونَ من خلالها تقديم روايتهم.

إقصاءُ اللغة هنا هو إقصاء لخطاب الآخر، للذاكرة الأخرى، للرواية الأخرى التي تحاول أن تقدم وقائع مختلفة.

إقصاء للكتابة وخطوطها، والصوت الناطق، ومخارِج الحروفِ، والتشكيل البصري والذاكرة اللامتناهية للمفردات.
  
"كل شيء هو اللغة"، يقولُ أوكتافيو باث.

تبدو اللغة العربية نموذجاً على اللغةِ "المجرمة" الآنَ، لغة عدوة ومنبوذة داخل إسرائيل، لغة مطاردة في الشوارع، ولافتات الطرقات، وأسماء القرى والبلدات، والجداول، والنباتات، والطيور، والصخور، والخرائب منذ ما يزيد على سبعة عقود. وتحويل هذا كله حدثاً طارئاً نشأَ من فراغٍ مثير للشبهات والشكوك.

شيطنة اللغة العربية، التي اتسع نطاقها في العقد الأخير، تتبعت قوارب اللاجئين عبر المتوسط، الذين وصلوا إلى الضفةِ الأخرى، وهم يحملونَ علامتهم ولونَ بشرتِهم الغامق، وإشارات تفكك دول المركز العربي، تشكلت عبرَ أكثر من مصدر لتلتقي جميعها في بناء فكرة "الشك" التي تطاردها.

عملية إقصاءِ اللغات الأخرى وثقافاتها، وفرض ثقافة بعينها مارسته العربية أيضاً في لعبةِ القوة وتبادلِ الأدوار المتواصلةِ عندما أُلقيت عليها صِفة القداسة عبر احتكارها القرآنَ، هذا الاحتكار الذي اعتمدت عليه فكرة "تعريب الدواوين" التي تبناها حكم الأمويينَ في دمشقَ، صدر الإسلامِ، وجرى التعامل معه عبر قرون طويلة مثل عمل مُلهمٍ، مع أن ذلكَ كان يعني إقصاء لغات شعوبِ المنطقة، وتجريمها، وإلحاقَ ثقافتها بقداسة اللغة المهيمنة.

مطاردة اللغاتِ وتجريمها ومحاولة طمسِ ثقافاتِ الشعوب، ارتبطت بنشوء اللغة نفسها، وصعود القوى، وتراكمت في منطقتِنا من خلال الصراعِ الطويل بين ضفتي المتوسطِ بحمولاته الدينية والثقافية.

الأفكار الاستشراقيةِ التي علقت في المخيلةِ الغربيةِ حول الصورةِ النمطية للعربي، التي أعاد تحريكها وتعزيزَها التطرف السلفي، والحركات الظلامية.

الاستعمار الغربي الذي تغذى من الأفكار الاستشراقيةِ، الديكتاتوريات التي نشأت في المنطقة خلال موجة نشوء الدولة الوطنية، واضطهدت لغات شعوب المنطقة وثقافاتها، مثلَ الكردية، والأمازيغية، والسريانية، وعذبتها وحولت الآخر "خللاً" لا يصلح إلا بـ"تعريبه".

التطرف الذي تغذى على الجهل ونشأ عن هذا كله.

لكنها "الشيطنة" والشكوك، تتغذى أيضاً وبقوة مضاعفة في الضفة الثانية، على الجهل بمنجز هذه اللغة التاريخي، ونماذجها المعاصرة، وجمالياتها المذهلة، ودورها العميق والمؤثر في الجهد الإنساني الذي خدمته على مدار مئات السنوات، ولا تزال.

*كلمة الافتتاح في ملتقى "أيام الأدب العربي-الألماني" المنعقد في برلين 25-26 أكتوبر.