عدسة تصوير فوتوغرافي (أرشيف)
عدسة تصوير فوتوغرافي (أرشيف)
الأحد 3 نوفمبر 2019 / 20:07

ثمة ما يشبه رواية بوليسية ولكنها واقعية تماماً..!

لا تبدو أفكار جونثان ألبيري عن العالم العربي، وحروبه الأهلية، مثيرة للاهتمام. ولن يستشهد بها أحد، على الأرجح، في سياق قراءة استراتيجية لمنطقة اشتعلت فيها أكثر من نار، وعصفت بها أكثر من كارثة. فهو مصور صحافي، في مقتبل العمر، تنوب صوره عنه في وصف واقع ما، أو اختزاله في مشاهد مؤثرة.

لا يبدو البيري متأكداً من الهوية السياسية والأيديولوجية للخاطفين، فهم يزدادون تشدداً بالمعنى الديني يوماً بعد يوم، ولكنهم يفاوضون أطرافاً مختلفة للحصول على أعلى سعر للرهينة

ومع ذلك، فإن في تجربته الشخصية، وما يتجلى فيها من دلالات سياسية، الكثير مما يثير الاهتمام. فلا يحدث دائماً أن يجد الإنسان نفسه رهينة ميليشيا مسلحة، في زمن حرب أهلية تتبدل فيها الأقنعة والقناعات، وأن يعود إلى بلاده سالماً بعدما وجد من يدفع الفدية.

ولا يحدث، دائماً، أن تنشأ مصالح متبادلة بين عدوين على طرفي نقيض في العلن، وأن تكون هي السبب الرئيس في نجاة الرهينة.

ولا يحدث دائماً، أيضاً، أن نطل على تفاصيل الحياة اليومية للرهائن في الأسر، وعلاقتهم بخاطفيهم، مع كل ما ينطوي عليه أمر مماثل من تداعيات تخص الأحاديث اليومية الصغيرة، وتنظيم وجبات الطعام، والنظافة، وحب الاستطلاع المتبادل بين الجانبين، وكذلك ما يدور في ذهن الرهينة نفسها من خواطر، وكوابيس، فقد ينتهي بها الأمر إلى الذبح أمام عدسة الكاميرا، وهذا احتمال لا يقل واقعية عن إمكانية دفع الفدية، وإطلاق السراح. وقد يُفضل الخاطفون بيع الرهينة لميليشيا أخرى، إذا حصلوا على سعر أكبر.

وقد توفرت كل هذه العناصر في تجربة البيري الشخصية التي سرد تفاصيلها في كتاب صدر بالإنجليزية في أواخر العام الماضي بعنوان "العدسة المكسورة: القصة الحقيقية لوقوع مصور صحافي حربي في الأسر ونجاته في سوريا".

وما يعنينا، في هذا الشأن، أن المذكور يحمل جنسية مزدوجة فرنسية أمريكية، وذهب إلى سوريا، في العام 2013، لتغطية أحداث الثورة على النظام، وانزلاق البلاد إلى درك الحرب الأهلية.

وبما أن وجود الصحافيين الأجانب لم يكن موضع ترحيب من جانب النظام، كان من الطبيعي أن يحاول هؤلاء التسلل إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة.

ثمة الكثير من التفاصيل، في هذا الصدد، ويكفي القول إن وجود الصحافيين الأجانب في مناطق تسيطر عليها المعارضة، كان يعتمد بالدرجة الأساسية على وجود واسطة من الخارج لإنشاء صلة بينهم وبين أشخاص محليين، يجيدون لغة أجنبية، ويمكنهم الترجمة لهم، وتأمين أسباب الإقامة والتنقل مقابل مبالغ مالية يُتفق عليها. وهذا العمل شائع كمهنة في سوريا والعراق، وفي بلدان كثيرة، أيضاً.

وبهذه الطريقة تسلل البيري من تركيا إلى سوريا، ووصل إلى منطقة تسيطر عليها المعارضة قرب دمشق في 2013، وبعد أيام قليلة اعترضت السيارة التي يستقلها مع مرافقه السوري جماعة مسلّحة واختطفته.

وهو يعتقد أن الحادثة لم تكن عرضية بل نجمت عن اتفاق بين المسلحين والمرافق الذي "باعه" لهم.

على أي حال، اقتيد البيري بعد أيام قضاها مقيداً ومعصوب العينين إلى قرية قرب الحدود اللبنانية السورية، أين قضى أغلب أيامه في الأسر، وبعد 81 يوماً أُطلق سراحه، بعد تهريبه إلى بيروت، مقابل فدية بلغت 450 ألف دولار.

والواقع أن السرد يزداد حرارة، وتشويقاً، كلما اقتربنا من التفاصيل التي رواها البيري، في كتابه، عن المفاوضات التي سبقت إطلاق سرحه، والأطراف المشاركة فيها.

فالجماعة المُسلحة التي اختطفته وحدة صغيرة تعمل بشكل شبه مستقل، وتدعي العمل تحت مظلة عريضة بعنوان "الجيش الحر"، وحققوا معه بتهمة التجسس، ولكنهم اتصلوا بعائلته، من هاتفه الشخصي، طلباً للفدية.

ومع ذلك، لا يبدو البيري متأكداً من الهوية السياسية والأيديولوجية للخاطفين، فهم يزدادون تشدداً بالمعنى الديني يوماً بعد يوم، ولكنهم يفاوضون أطرافاً مختلفة للحصول على أعلى سعر للرهينة، وربما لن يترددوا في بيعه "للقاعدة" أو غيرها من الجماعات الإرهابية.

ويبدو أن نجاته كانت وثيقة الصلة بنشاط أحد رجال الأعمال اللبنانيين، الذي تربطه علاقات جيدة بأطراف دولية وكذلك محلية في سوريا. وقد حاول رجل الأعمال اللبناني "اختطاف" البيري من خاطفيه بواسطة أحد المهربين على جانبي الحدود اللبنانية السورية.

وبعدما فشلت المحاولة لجأ إلى أحد رجال الأعمال السوريين، وهو عضو في مجلس الشعب، ووثيق الصلة بمؤسسة السلطة في دمشق.

وأرسل المذكور رجل دين إلى البيت الذي يُحتجز فيه البيري للتأكد من وجوده على قيد الحياة، وجرت بين الطرفين مفاوضات أسفرت عن دفع الفدية للخاطفين، ونقل الرهينة إلى نقطة تسليم آمنة، ونقله بسيارة أحد أجهزة الأمن السورية إلى دمشق، وتسليمه لرجل الأعمال السوري.

وهذا، بدوره، احتفل بوصول البيري سالماً، وأبلغه بأنه هو الذي دفع الفدية، ونقله في الصندوق الخلفي لسيارته إلى بيروت. ودفع المذكور الفدية لأنه يريد إزالة اسمه من قائمة العقوبات التي فرضها الأميركيون على مقربين من النظام في دمشق.

ثمة، هنا، ما يشبه رواية بوليسية، مع فارق أنها تروي أحداثاً وقعت بالفعل. وفيها ما يلقي جانباً من الضوء على سياسات ومناورات ومفاوضات احتجاز الرهائن، وقتلهم أو الحصول على الفدية مقابل إطلاق سراحهم.

وقد يحدث في سياق هذه الأشياء كلها أن تلتقي مصالح سرية، بعيدة المدى أو مؤقتة، لأطراف متناحرة تنشب أسنانها في أعناق بعضها البعض في العلن.