الروائية البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش (أرشيف)
الروائية البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش (أرشيف)
الخميس 7 نوفمبر 2019 / 19:50

سفيتلانا أليكسييفيتش.. آخر الشهود!

تشتغل الروائية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش صاحبة جائزة نوبل للآداب في 2015 على كتابة روائية أرشيفية تُعنى بالتفاصيل الصغيرة المهمة لملايين البشر حول العالم من الذين عانوا ويلات الحروب الكبرى ودمارها، أولئك البشر الذين وثقوا في ذاكرتهم لحظاتهم الأخيرة مع أحبائهم قبل أن يفقدوهم ويودعوهم الوداع الأخير.

يتخلى الأطفال في الحروب عن دمائهم المفضّلة من أجل قطعة خبز، وتتسلل إلى أنوفهم روائح الحرب التي لاتغادر الذاكرة مطلقًا، ويختلط البشر وتختلط الأماكن وتتبعثر إلى شتات ومنافٍ

وكتابة أليكسييفيتش تحتفي بهؤلاء"الشهود" على الحروب التاريخية المفصليّة الكبرى التي غيرت وجه البشرية ومساراتها، الحرب العالمية الثانية وماتلاها، ورواياتها تنشئ كتابة سردية جديدة يُقدم فيها الحدث التاريخي المفصلي من خلال تقنية أصوات متعددة قائمة على التداخل، ولذلك فإنّ حبكتها السردية مغايرة في ذلك "التبئير"المتعدد الأصوات.

أجرت سفيتلانا أليكسييفيتش مسحاً شاملاً للإنسان خلال المرحلة السوفياتية خلال أكثر من نصف قرن، بما في ذلك رصدها لتواريخ المشاعر التي قلما التفت إليها مؤرخو الحروب.

 وربما ألهمها اشتغالها في الصحافة لسنواتٍ عدة لابتكار تلك الأرشفة السردية التي تميز مجمل أعمالها الروائية، ففي روايتها "ليس للحرب وجه أنثوي"1985، اتكأت أليكسييفيتش على حوارات تنبض بروح الخسارة والحسرة مع مئات النساء اللواتي قاتلن في الجبهة ضد ألمانيا النازية، وبلغ عددهن حوالي مليون امرأة.

وفي رواية "فتيان الزنك" 2016، تستنطق أليكسييفيتش بعض الأصوات السوفياتية من حرب منسية حرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بين 1979و1989، أين كان الجيش السوفياتي آنذاك يشحن قتلى الحرب من جنوده في توابيت من الزنك إلى مسقط رؤوسهم.

وفي روايتها "مسحور بالموت" 1993، تسرد أليكسييفيتش لحظات انهيار الاتحاد السوفياتي من خلال محاولات انتحار الكثير من البشر العاديين الذين لم يستطيعوا التخلي عن أيديولوجيتهم الشيوعية. وقد واصلت سرد تلك اللحظات التي لم يرصدها الإعلام الرسمي في روايتها "زمن مستعمل" 2013، التي استنطقت فيها عشرات الشهود الذين كانو شهوداً على لحظة تاريخية مفصلية هي انهيار الاتحاد السوفياتي.

وفي "صلاة تشرنوبيل" 1997، أجرت الروائية مقابلات مع خمسمائة ناجٍ وناجية من مأساة انفجار مفاعل تشرنوبيل النووية، ورصدت مشاعر الحزن والغضب في صور سردية نابضة بالألم.

وفي روايتها "آخر الشهود" وثقت أليكسييفيتش اللحظات الأليمة في ذاكرة عشرات من البشر من شهود الحرب العالمية الثانية، لقد استنطقت ذاكرتهم عن طفولة مغايرة، لقد كانوا أطفالاً صغاراً جدًا تتراوح أعمارهم بين الرابعة، والرابعة عشرة، عندما اقتحمتهم الحرب فجأة، وسرقت منهم طفولتهم.

وهي أحزان كونية كبرى لاتفرق بين عرق أو دين، وفي تصديرها لهذه الرواية تقول: "في فترة الحرب الوطنية العظمى بين 1941و 1945، قُتِلَ ملايين الأطفال السوفييت، روس، وبيلاروس، وأوكرانيون، ويهود، وتتار، ولاتفيون، وغجر، وكازاخ، وأوزبيك، وأرمن، وطاجيك".

يتخلى الأطفال في الحروب عن دُماهم المفضلة من أجل قطعة خبز، وتتسلل إلى أنوفهم روائح الحرب التي لا تغادر الذاكرة مطلقاً، ويختلط البشر، وتختلط الأماكن وتتبعثر إلى شتات ومنافٍ. وفي الحكاية الأولى للشاهد الأول تروي جينا بلكيفتش البالغة من العمر آنذاك ستة أعوام، سردية الحرب من ذاكرة طفولية: "أنارت الشمس وجهي. شعرتُ بالدفء الشديد... حتى الآن لا أصدق أنّ أبي ذهب في ذلك الصباح إلى الحرب، كنتُ صغيرة جداً، لكني أعتقد أنني كنت أدرك أني أراه لآخر مرة، ولن ألقاه أبداً. كنتُ صغيرةً.. صغيرة جدًا. وهكذا ترسّخ في ذاكرتي، أن الحرب تعني غياب أبي".

في وقت ما طرح، دوستويفسكي السؤال التالي، هل يوجد تبرير للسلام ،ولسعادتنا، وحتى للانسجام الأبدي، إذا ذُرِفَت دمعة صغيرة واحدة لطفل بريء من أجل ذلك، ومن أجل إقامة الأساس المتين؟ وأجاب بنفسه قائلاً، إنّ هذه الدمعة لا تبرر أي تقدم، وأي ثورة، وأي حرب. فهي أكثر قيمة دائماً.

إنَّها دمعة صغيرة واحدة. كثيرة هي سرديات الحروب التي بقيت دون استنطاق ورحلت مع رحيل ملايين البشر، وفُقِدت إلى الأبد. فهل نحن في حاجة إلى استنطاق ذاكرة الألم من جديد؟ أرى أن سرديات أليكسييفيتش رغم قسوة وقعها، تحمل رسالة السلام إلى البشرية، فمهما تعددت الأعراق، والأجناس، والأديان تبقى ذاكرة الفقد وذاكرة الألم، ذاكرةً إنسانية مشتركة، هي تلك الذاكرة التي ستظل تذكرنا بأهمية الحفاظ على إنسانيتنا الحقة وبأهمية الحفاظ على السلام بين الشعوب.