تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 11 نوفمبر 2019 / 19:38

العيش المشترك وأخلاق العناية والرعاية

سواء تعلق الأمر بـ "خير الإحساس بالعدالة" أو "الحس المشترك"، فإنهما يعنيان الخصم من الأحاسيس الفردية، والتنازل عن بعض الخيرات الخاصة، لأنه في النهاية "لا يمكن لأحد أن يعيش وفق مزاجه وشروطه

انتقلت المجتمعات الإنسانية تدريجياً من مرحلة التوحش المعلن والمفتوح والفاضح إلى تحضر ملموس، لم تختف فيه نزعة التوحش تماماً، إنما أخذت أشكالاً أكثر نعومة وأقل خطراً. وما كان لهذا الانتقال أن يتم دون ترك كل فرد مساحة فارغة مما كان يعض عليه بالنواجذ في زمن سابق، ويقاتل كل من يحاول انتزاعه منه، ويبدي استعدادا أحيانا أن يُهلك دون ما لديه. فإذا كانت "حقوق الإنسان الطبيعية لا يمكن حمايتها إلا في حالة سلم صلب، وجد إنسان حالة الطبيعة نفسه مضطرا لتجاوز هذه الحالة والانتقال إلى المدنية، حيث تنازل عن جزء من سلطته المطلقة، وحريته التامة، لصالح سلطة تدير أمور العيش المشترك، وتحمي حياة كل فرد وحريته وسعادته وصحته وممتلكاته. سلطة تتعالى على الجميع، لكي تخدم الجميع، وتحقق سعادة الكل".

فدون ذلك سينخرط الناس في صراع مفتوح من أجل الكسب والأمن والسمعة، وهي حالة يسميها توماس هوبز حرب الإنسان ضد الإنسان، ويعزوها إلى الطبيعة التي تفرق بين البشر، وتجعلهم قادرين على اجتياح وتدمير بعضهم بعضاً، ما استدعى منه تحذيراً ودعوة إلى كل إنسان كي يتأمل هذا الوضع جيداً، حين خاطبه بضمير الغائب:

"فلندعه إذن يتأمل نفسه: حين يقوم برحلة، فإنه يتسلح، ويبحث عن الصحبة الجيدة، وحين يخلد إلى النوم فإنه يقفل أبوابه، وحتى عندما يكون في بيته فإنه يغلق خزائنه، وهذا مع معرفته أن هناك قانوناً وموظفين عامين مسلحين، ينتقمون لأي أذى قد يلحق به، ما هي إذن نظرته إلى أمثاله حين يسافر مسلحاً، وإلى مواطنيه حين يقفل أبوابه، وإلى أطفاله وخدمه حين يغلق خزانته؟ ألا يتهم بأفعاله هذه الجنس البشري بقدر ما أتهمه أنا بكلماتي؟ لكن أياً منا لا يتهم بذلك الطبيعة البشرية. إن رغبات الإنسان وأهواءه الأخرى ليست في حد ذاتها خطايا، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأفعال، التي تنتج عن تلك الأهواء، إلى أن يعرف قانوناً يمنعها، وهذا ما لن يحصل قبل أن تسن القوانين، ولا يمكن أن يسن أي قانون قبل أن يتم الاتفاق على الشخص الذي سيسنه" .

إن ظهور المجتمعات الحديثة، والدول المعاصرة، وانتظام الأفراد في سلك الجماعة والمجتمع جعلهم يضطرون إلى تهذيب غريزة البحث الدائم عن القوة، وتحجيم الأنانية المتأصلة وفق تصور هوبز، والتنازل عن أجزاء من حريتهم الشخصية لصالح الجماعة، الأمر الذي أدى إلى وجود مصلحتين لا بد من التوفيق بينهما، هما مصلحة الفرد وحقه في الخصوصية، من جانب، وهدف العيش المشترك من جانب آخر.

وهذا التوفيق ينبني في جزء كبير وأصيل منه على الشعور بالعدالة، الذي يعد أحد الشروط الأساسية للعيش المشترك بين البشر، وهو أمر يقوم على ما أسماه جون رولز "خير حس العدالة"، ما يعني النفع الذي يعود على أفراد المجتمع نتيجة لشعورهم بتوافر العدالة، واطمئنانهم إلى هذا، وتحصيل هذه المزية ليس بالقليل، وهنا يقول:
"حس العدالة هو رغبة فاعلة لتطببيق مبادئ العدالة، والتصرف بناء عليها، وذلك من وجهة نظر العدالة. بالتالي ما يجب البرهنة عليه هو أن من العقلانية ـ كما تعرف بوساطة النظرية الضعيفة للخير ـ بالنسبة لأولئك في المجتمع جيد التنظيم تأكيد إحساسهم بالعدالة كناظم لخططهم في الحياة. ويبقى أن يببين أن هذا الميل لاتخاذ وجهة نظر العدالة، والاسترشاد بها يتطابق مع خير الفرد" .

وأي عاطفة نحو العدالة يجب تتسع لتشمل جميع الأشخاص في المجتمع بفضل قدرة الإنسان على الموازنة بين التعاطف الواسع والمصلحة الذاتية الذكية، بما يجعله قادرا على الإحساس بالضرر الذي يقع للآخرين وكأنه قد وقع له، ويتفهم دور المجتمع في حماية حقوق الجميع. وبذا ارتبطت هذه العاطفة بفكرة المنفعة التي نقل بها بنثام وبعده جون سيتورات ميل الحديث عن "الطبيعة البشرية" إلى مستوى عملي إجرائي، وهي هو في نظر ميل "عاطفة طبيعية" أو رغبة للإنسان في أن يكون متوائماً مع بني جنسه، وهو هدف لن يتحقق إلا في مجتمع تتكافأ فيه الفرص، ما يعني ضرورة تفهم كل فرد لمصالح الآخرين، أو أخذها بعين الاعتبار، لأنه دون ذلك لن يكون بوسعه أن يحقق منفعته، التي تعني تعظيم لذته، وتقليل ألمه، ومن ثم يتعين تربية الأفراد على كيفية العيش في تناعم وانسجام مع المجتمع ككل، بالتوازي مع تحقيق تقدم على درب الحرية.

وحتى يتمتع الفرد بخير الإحساس بالعدل لا بد من توافر حالة من "السلم الاجتماعي" ينمو فيها هذا الشعور، إذ أن الحروب، وبعض النزاعات الأهلية والأحقاد والضغائن الطبقية والجهوية، تجعل أشياء كثيرة مستباحة، وتجد من يبرر هذه الاستباحة أو الاستحلال ويدافع عنه، باعتباره حقا أو على الأقل امتثالا للواقع. ووجود سلام في ربوع المجتمع يتطلب بالقطع تفهما كاملا أو واسعا وعميقا لمسألة التنازل عن بعض ما لدى كل فرد لصالح المجموع، وهذا يحدث عن يكتسب العقل العمومي فضيلة "الحس المشترك" ، بجانبيه الباطني والظاهري.

والحس المشترك، مسألة نفسية ذهنية، لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وتأخذ صيغة ترتيب وتنسيق بين الأحاسيس والملكات الخاصة، والتأليف أو التوليف بينها كي تكون موضوعاً واحداً، ويصبح الأفراد واعين به، حريصين عليه. وقد يكون الحس المشترك مجمل الآراء المسلم بها في عصر من العصور، وفي وسط معين، بما يصنع نظرة إلى الآراء المضادة على أنها انحرافات و ضلالات فردية، لا طائل من دحضها في صرامة، بل يجب السخرية والنفور منها.

وسواء تعلق الأمر بـ "خير الإحساس بالعدالة" أو "الحس المشترك"، فإنهما يعنيان الخصم من الأحاسيس الفردية، والتنازل عن بعض الخيرات الخاصة، لأنه في النهاية "لا يمكن لأحد أن يعيش وفق مزاجه وشروطه وإنما يلزمه التنازل عن بعضها والتأقلم مع أمزجة غيره وأفكارهم وميولهم، وتكمن النزعة العدوانية في عدم تقبل هذه الحقيقة النفسية والاجتماعية فيحدث التصادم والرغبة في الانفراد في تسيير الحياة من أبسط أشكالها إلى أكثرها تعقيداً".

ولا يقف الأمر في هذا عند قيمة العدالة، بل يمس بشكل كبير قيمتين أخريين هما الحرية والأمن، اللتين لا يمكن الاستغناء عنهما لحياة إنسانية محترمة، حسبما يرى زيغمونت باومان، رغم ما فيهما من تناقض، فالنزوع إلى الحرية يضيق بالقيود التي يفرضها الأمن، ومتطلبات الأمن تقيد بعض التفلت، أو على الأقل التصرف غير المحسوب، المرتبط بالحرية.

ومحاولة التوفيق بين هاتين القيمتين تتطلب في حقيقة الأمر ترك أنصار كل منهما مساحة فارغة لتحل فيها إرادة أنصار القيمة الأخرى، وهي مسألة على صعوبتها واجبة في سبيل الحفاظ على العيش المشترك، لذا لا مناص من بذل جهد في سبيل بلوغها، قد تفلح طريقة باومان في جعله يثمر، حين يقول:
"بدلاً من المضي في درب أفقي من التقدم نحو الحرية، والمزيد من الأمن، يمكننا أن نسير في حركة تشبه حركة بندول الساعة، أولاً باندفاع وحماسة نحو إحدى القيمتين، وبعد ذلك نميل بعيداً عنها باتجاه الأخرى".

ويتفهم الناس رويداً رويداً ضرورة الجمع بين تلك القيمتين، وإن كانت النسب تختلف من شخص إلى آخر، ويكونون تياراً اجتماعياً رئيسياً يقر بالتنازل عن جزء من الحريات المدنية في سبيل تقليل التهديدات التي تلاحقهم. لتبقى هناك قلة على الطرفين، لا تقبل بالتنازل وصناعة فراغ حول كل قيمة تمتد القيمة المتناقضة لتملأه، فهناك من ليس على استعداد لتقليل حريته الفردية في سبيل أمنه، في مقابل أولئك الذين ينظرون إلى الحرية على أنها ترف، ويرون أن التضحية بها واجب في سبيل تحقيق الأمن.

وفي العموم، وإضافة إلى علاقة العيش المشترك بقيم العدالة والحرية والأمن، فإن نظرة فاحصة على الخريطة الإجتماعية للعالم المعاصر تبين وجود فروق شاسعة بين المجتمعات في إبداء مرونة حيال مسألة "التنازل" عن المصلحة والإرادة، وفهم عميق لضرورة وجود الفراغات التي يجب أن تحل هينة لينة لتصنع ترابطاً اجتماعياً طوعياً قوياً. فالمجتمعات المتعايشة في سلام تفتخر بتنازلاتها المتبادلة، وتدرك أن فعل هذا أمر لا فكاك منه للحفاظ على نسيجها متماسكاً، على النقيض من ذلك تكون المجتمعات التي تتطاحن، حيث تعتبر التنازل لبعضها البعض نوعاً من الإهانة أو الإذلال، فيتعمق تناحرها وهي تمعن في رسم خطوط حمراء حادة وغليظة لبعضها البعض، تزداد إلى أن تتحول إلى مستنقع يغرق فيه كل جهد يرمي إلى تحقيق التعايش، وتحسين شروط الحياة.