الخميس 14 نوفمبر 2019 / 12:11

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

محمد أبو زيد

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن دار صفصافة بالقاهرة، "الشعر هو كل ما تمنيته يوماً، ودهسته أقدام الحياة الثقيلة دهساً في قلبي، فنبت قصائد زائلة تماماً، مثل وجودي الهش المراوغ الزائل".

وهو تعريف شديد الدقة والبساطة في آن، ويحوّل الشعر من كونه مجازاً للكلمات إلى مجاز للحياة المفقودة، ويبدو هذا التعريف مدخل مناسب تماماً لقراءة هذا الديوان، الذي تبدو سارة وكأنها أعادت من خلاله كتابة حياتها التي عاشتها أو تمنت أن تعيشها، أو عاشتها شعراً بالموازاة مع حياتها العادية.

وربما تكون المفردتان الأكثر استخداماً في هذا الديوان هما "الألم"، و"الوحدة"، وهما وجهان لعملة واحدة في ظن سارة، فـ "الوحدة هي المعنى الأعمق للألم"، كما تقول في أحد نصوصها، هذه الوحدة التي جعلتها تختفي من شدة وطأتها، فقررت أن تبحث عن وجودها شعراً، مرة عن طريق مخاطبة ذاتها والتفتيش داخلها، ومرة عن طريق الحديث مع خالقها ومشاركته تفاصيل حياتها وآلامها.

ولهذا يتكون الديوان من نصين طويلين متقاطعين، النص الرئيسي والأطول هو الرسائل التي تتحدث فيها سارة عابدين إلى الله عن الكثير من التفاصيل اليومية، والنص الآخر تتحدث فيه سارة ـ في الغالب ـ إلى ذاتها وعن ذاتها، هو مقاطع شعرية يبدو همها الأساسي الشعر كقضية وحياة.

لا تذكر سارة ـ في الجزء الأول ـ أن رسائلها موجهة إلى الله، تشير إلى ذلك فقط بشكل عرضي في منتصف الديوان تقريباً، وفي نصين أخيرين تتوجه فيهما إلى السماء بالحديث، لكن يمكن للقارئ أن يستنتج ذلك بداية من النص الثاني عندما تتحدث عن الملائكة الذين يمنعون وصول الرسائل.

تحكي سارة في رسائلها إلى الله عن تفاصيل يومها شديدة البساطة، فتخبره عن رواية تقرأها، وعن الأبراج، وعن الضيوف الذين تكرههم ولا يجيئون، وعن تجاهلها واجباتها الاجتماعية، وعن حلقات ذا فويس التي تتابعها، وعن كراهيتها للأطباء الذين لا يجيدون التفريق بين الدراما والتراجيديا، تفعل هذا كأنها تحكي لصديقة بينما تجلسان في اطمئنان تتجاذبان أطراف الحديث، أو كأنها تروي لشخص تحبه ويشاركها حياتها ما مر بها في يومها، بل تذكره ببعض التفاصيل القديمة التي عاشاها معاً، منذ طفولتها أحياناً "هل تذكر، عندما كنت أسرع للنوم عند تكاثف النقاط السوداء على شاشة التلفزيون؟ كنت أغلقه بسرعة قبل أن تشفطني الشاشة ويلتهمني العدم".

ولأنها تدرك أنها تكتب يومها المتخيل أو المفتقد، تبدأ سارة عابدين ديوانها بجملة شديدة الاعتيادية "صباح الخير"، كأنها تبدأ يومها، أو حياتها، كأنها تشير إلى أن ما سنقرأه بعد قليل هو محض يوميات، ثم تقدم تهنئة "كل عام وأنت بخير"، لا نعرف ما المناسبة، لكنها تريد أن توحي للقارئ أن ثمة معرفة قديمة بين المرسِل والمرسَل إليه. في الرسالة الثانية، تبدأ الأمور تتضح تدريجياً. تعرف الشاعرة نفسها، بعد كثير من التفاصيل اليومية التي تبدو أنها تربكها فتهرب منها إلى الكتابة: "هاي، أنا سارة، ساذجة وبلهاء، وبالرغم من ذلك أفهم الدعابات، اسمحوا لرسائلي بالمرور دون أن تنتظر طويلاً، حتى لا تتكدس المسافة بين السماء والأرض". تبدأ سارة الرسالة الأولى بصباح الخير، والثانية بمساء الخير، كأنها تقول للقارئ أنها تكتب في الصباح والمساء، أنها تحول كل تفاصيل يومها إلى شعر عبر هذه الرسائل، أنها تلجأ إلى الشعر لكي تحتمل هذه الحياة، أنها تخلق حياة موازية بهذه الرسائل. ولأن كل ما تفعله هو الكتابة، والتفكير في الكتابة، وتحويل كل ما حولها إلى كتابة، لذا فهي لا تخجل عندما تترك صديقتها على الهاتف لتكتب إلى الله: "صديقتي تقرأ بضع صفحات من رواية لها قيد الكتابة، أهاتفها وأنهي المكالمة بسرعة حتى أكتب إليك".

والصداقة هنا أحد أسباب الكتابة، فإذا كانت الذات الشاعرة تكتب هرباً من الوحدة، فلأنها في المقابل لا تجد أحداً من حولها، فهي تارة فتاة وحيدة لا تجد صديقة تتسوق معها (بل تسأله إذا كان قد تسوق من قبل)، وتارة تخيب توقعات كل من حولها (صديقاتها اللاتي تتجاهل رسائلهن)، وتارة تخاطب الله قائلة "الموضوع لم يعد بسيطا، وأنا أكاتبك الآن كما أكاتب صديقا مقرباً"، لكنها في النهاية تعترف بأنه صديقها الوحيد، لهذا تكتب له:

"أنت صديقي الوحيد
لكنك تتجاهل رسائلي، هل قذفتني في البحر فقط
لتراقب الدوائر المتواترة
على كل حال، أنا أتفهم تجاهلك لي".

تكتب سارة إلى الله رغم أنها تعرف إن "صديقها الوحيد" لن يرد عليها، لكنها تعرف أنه سيرسل لها إشارات، مثل "الألم الناجم عن نزع البلاستر الطبي"، تكتب وهي تعرف أنه قد يتجاهل رسائلها، تكتب لأن لديها أسباباً أخرى للكتابة، تكتب لأنها تريد أن تحكي، أن تعترف "تجتاحني رغبة قوية في الاعتراف، أحاول التمسك بها للتخفف من الثقل الذي يطبق عليّ"، تكتب بحثاً عن الحماية من ثقل الحياة "أعاود الاحتماء بك"، تكتب هرباً من الموت الذي يجذبها إليه بتضييقه الخناق حولها "الجدل الذي أثيره، محاولات لتجاوز فكرة الموت"، تكتب لتوثيق الألم فربما يكون ذلك سبباً في نسيانه "أكتب الرسائل لك لأوثق لحظات ألمي، أركز على احتمالات الجمل الشعرية، وأتناسي احتمالات الهجوم القادم من جسمي على نفسه، وتخيل موضع الألم الجديد"، تكتب بحثاً عن صديق "أنا أكاتبك الآن كمان أكاتب صديقا مقربا"، تكتب لأنها تتألم "الألم يجبرني على التأمل، أقف في منتصف الحياة، وأتساءل من أنا، ماذا أفعل، وما معنى الحياة"، تكتب لأنها وحيدة وغاضبة ويائسة ولا شيء تفعله وينقذها سوى الكتابة "أنا وحيدة وغاضبة يا الله، يمكنني أن أهدم كل شيء، يمكنني أن أقف نفسي أمام قطار، أو ألقي نفسي في النهر لأختبر قدرتي على الطفو، كلما أوغلت أوغلت في اليأس، أوغلت في القوة"، تكتب أحياناَ لمجرد الحديث مع شخص يسمعها ويشعر بآلامها "لم يعد هناك ما أقوله، أنا أثرثر قط، لأنني لا أملك الوقت الكافي للصمت"، تكتب لأنها تبحث عمن يشاركها تفاصيل حياتها اليومية البسيطة "هل تصلك الأتربة الصفراء التي تلوث ملابسي على حبل الغسيل"، تكتب كمهرب من تفاهة هذه التفاصيل البسيطة "الكتابة إليك مهرب جديد من غسل الأطباق أو نشر الملابس على أحبال الغسيل".

سأقول للملابس والأطباق بحسم
انتظروا أكتب إلى الله،
سترتعب الملابس والأطباق من الخوف والرهبة،
وأنا لن أفعل أكثر مما أفعله كل يوم،
أفكر فيك عندما تنغلق كل الدوائر حولي

لكن كتابة سارة ـ رغم ذلك ـ ليست مجرد حكي أو ثرثرة فارغة، ورسائلها لغرض ديني، بل هي "اختبار وجودي" كما تقول، واشتباك أيضاً في قضايا جدلية تخص الوجود والعدم والحياة والموت، اشتباك من اقترب فرأى فاطمأن فاشتبك عن معرفة دون خوف. تكتب كأنها تواجه، كأنها تخوض حرباً "اتركهم أولاً يراسلونك بحذر حتى يدركوا معنى الاشتباك، تذكر أرجوك عندما تنهمر عليك الرسائل أنني لم أخش المواجهة".

لذا يمكن القول إن هموم سارة، التي تتحدث فيها مع الله ليست شخصية فقط، حتى ولو بدت أنها تتكلم عن جارتها والطبيب وآلام الولادة، لأنها في المقابل تتحدث عن الخراب الأكبر، وانفجارات الكون:

"أنا غاضبة يا الله،
أنت تعرف بالتأكيد،
القدر موحش، الغياب موحش
الوجود هو الوحشة الكبرى".

أسئلة سارة بالأساس في هذه الرسائل/ الديوان تتعلق جميعها بالمصير وبالخلق، بالضياع البشري وتضاؤل المعنى الإنساني، لذا تكتب كمن لم يتبق لديه شيء ليخسره، ولهذا تستدعي شخوصاً لهم علاقة بهذا القلق الوجودي مثل سيلفيا بلاث، وسيوران وميلان كونديرا، وتشارلز بوكوفسكي، لتشاركهم أسئلتهم ورفضهم للحياة.

في بعض الأحيان تشك سارة في جدوى الرسائل، أو تنتظر رداً تعرف أنه لن يأتي رغم أنها تعرف أنه رأي رسائلها "رسائلي إليك تتراكم، ماذا بعد كلمة seen"، هذا يطمئنها لكنها لا تلبث أن تنفي عن خطّها تهمة التسبب في عدم الرد "ساعي بريدك أكثر وضوحا منك، لا أظن أن لخطي السيء علاقة بتعاملك مع رسائلي"، بل تفكر في أن تطور الكتابة إليه بالمحادثة الهاتفية "بعد شهور من المراسلة، تمنحني دقائق من السعادة، هل يتوجب علي محادثتك هاتفيا حتى أظفر بدقائق أكثر من السعادة"، لكنها تتراجع عن ذلك "لم أعد أرغب بالكلام. الرسائل تناسبني أكثر، تناسب رغبتي في الانفلات من الحياة".

لكن في ظني أن هذه الرسائل، ليست موجهة إلى الله بقدر ما هي موجهة إلى سارة الأخرى في المرآة، تلك التي تتضاءل وتختفي، والتي نراها بشكل أكثر وضوحاً في النصوص الأخرى، هذه النصوص عن شاعرة تبحث عن ذاتها التي تفتقدها، لتجلس معها وتحاورها، ولا طريق إلى ذلك سوى الشعر:

"مدهش أن أجالس نفسي وأحاورها
ثم أبصق على نفسي وأوبخها
ثم أربت على كتف نفسي وأحتضنني
وأبدأ في البكاء من جديد
سنوات من الوحدة وهجر البشر
أزرع أشجار الوحشة في صدري
أتركها تنمو على إيقاعات موسيقى الفادو واالبلوز ودقات الزار".

تكتب سارة عابدين الشعر إذن بحثاً عن نفسها، حتى رسائلها إلى الله، يمكن أن نقول في تأويل آخر إنها ليست إلا رغبة منها في أن يعرفها إلى ذاتها، لأنه بالنسبة لها هو الملاذ الأخير، حتى أنها لا تأبه لكون الله يحب الشعرأم لا، ورغم ذلك تراسله شعراً، "يبدو أنك لا تحب الشعر، وأنا لا أهتم بذلك"، فالشعر في نظره ونظر عوام الناس خطأ، لكنه يحقق سعادتها "أعيش بلا أخطاء تذكر سوى كتابة الشعر".

والشعر بالنسبة لسارة عابدين هو المرآة التي تنظر فيها حتى تجد نفسها، ذاتها الحقيقية وليست تلك التي يتعامل معها الجميع دون أن يستطيعوا الوصول إلى جوهرها "صورتنا في المرآة في نهاية الأمر، ليست سوى انعكاس ساذج لما نفعله في الحياة"، لكنها لا تريد هذا الانعكاس الساذج، بل تعيد تجميع ذاتها الحقيقية عبر القصائد كطفلة تجمع قطع البازل لتكوّن في النهاية حقيقتها الغائبة، تفعل ذلك في الشعر لأن "الحياة ليست لعبة"، بينما الشعر هو عالمها/ لعبتها/ حياتها الافتراضية، ولأن "كل الأشياء من حولنا حقيقية أكثر مما نحتمل"، ولهذا تلجأ سارة للمجاز، للحياة على سبيل المجاز.
  
وحين تنظر الذات الشاعرة إلى المرآة لا تعرف نفسها "الهيئات تتغير، وأنا أصبحت لا أشبهني، ولا أثق أن الألم سيزول"، نحن إذن أمام ذاتين مختلفتين، لا تشبه إحداهما الأخرى، لكن الذات التي تكتب هي التي تقاوم، تلجأ للكتابة لتجاوز عتمة الواقع، "القمر معتم تماماً، مثل العتمة القابعة بداخلي، والتي أكتب لأجل أن أتجاوزها" لتحويل مفرداته العادية إلى شعر مثل جملة "جسمك بياكل نفسه" التي تراها شعراً، بل ترى الأشياء بشكل مختلف عن الآخرين العاديين "تقول لي صديقة: الألم جعلك مضيئة، كيف للألم أن يضيء، أنا انطفأت تماما، الألم جعلني أتضاءل، الجميع يقول لي: جيد، فقدت كيلوات زائدة من وزنك، لكني أتمنى استعادة سحب روحي الضاحكة التي تبخرت مع الكيلوات المفقودة"
الصفة الأكثر التصاقاً بالذات الشاعرة هي الألم "لماذا لا تأتي أنت أيضاً واضحاً كالألم؟"، لكن الكلمة الأكثر حضوراً هي "الوحدة"، وهما مترابطتان ـ كما أشرت من قبل ـ ولأنه "مع الألم نكون وحيدين تماماً، لم أعد بحاجة إلى كلمات المواساة أو مشاعر التعاطف، أنا بحاجة إلى خلع كرة الألم، وقذفها بعيدا عني مثل قنبلة صغيرة".

على الرغم من أن الذات الشاعرة تشكو في بعض الأحيان الوحدة، فتصف نفسها بالقول: "تمشي في الشوارع وحيدة منذ عشرين عاما أو أكثر"، لكنها تبحث عنه في أحيان كثيرة "أفتقد الأماكن والأفعال، ولا أفتقد البشر، أفتقد التمشية دون صحبة والبوح دون من يسمعني"، ربما لأن الرفقة التي تريدها ليست موجودة في هذا العالم، ولهذا تحسد الله على وحدته "لماذا استأثرت بكل الوحدة لنفسك"، وتلجأ إلى السحر الذي سينقذها "الحياة ليست عادلة، وأنا بحاجة إلى السحر، أربي السحر في صدري، حتى ينمو ويلتهمني"، والشعر كما تعرفه في موضع آخر هو "الشعر: السحر الذي يسري بداخلي"، لهذا يصبح الشعر ترياقاً، وتصبح الرسائل علاجاً للألم:

"لم تزدني الكتابة إلا عزلة
ولم يزدني الشعر إلا وحدة
أجمع ذكرياتي ومشاعري في أكياس قمامة سوداء
وأقذفها للكلاب الضالة
وأضحك من كل المثاليات التي
اعتنقتها من قبل"

تحضر سيلفيا بلاث بقوة في الديوان من خلال قصيدة تخاطبها فيها الذات الشاعرة، ويبدو حضورها هنا مناسباً، لأنه ليس إلا تماهياً في حياتها، وفي ألمها، لا سيما قبل الانتحار:

"الآن فقط يا سيلفيا أدركت مدى ثقل الحياة
عرفت أن ثرثرتك في الكتابة ضرورية
حتى يتوقف الناقوس عن الدق"

تصف سارة كتابة سيلفيا بـ"الثرثرة"، وهو ذات الوصف الذي تصف به رسائلها إلى الله في غير موضع بالديوان، وكأنها تريد أن تقول أن الكتابة/ الثرثرة ضرورية، لأنها ليست إلا طريقة للنجاة من الموت، ومن اللافت أن سارة عابدين أنهت ديوانها بجملة تقول فيها "ماء البحر يقترب من الخط الفاصل، وأنا لم أجرب الغرق من قبل"، ربما في إشارة إلى مختارات سيلفيا المعنونة "أكثر من طريقة لائقة للغرق"، وإشارة إلى استسلام أمام الحياة، بعد محاولات الهروب من الموت ومصير سيلفيا بالكتابة إلى الله، وباللجوء إلى الشعر، وكأن نهاية الديوان/ الرسائل/ الكتابة، تعني النهاية، بالعودة إلى الواقع الذي هربت منه في ثنايا الكتاب.

في ديوان "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت"، لسارة عابدين، نحن أمام قصيدة واحدة طويلة موجعة، قصيدة عن الوحدة والألم، عن البحث عن "الونس" والهروب إلى الكتابة، عن الشك في العالم، واليقين في الشعر.