عراقيون يتظاهرون.(أرشيف)
عراقيون يتظاهرون.(أرشيف)
الأحد 1 ديسمبر 2019 / 20:08

الهوية الوطنية كطوق للنجاة وخارطة للطريق

خروج الناس إلى الشارع، وما يتجلى في فعل كهذا من روح وطنية لبنانية أصلية وأصيلة، أكثر عفوية وصفاء، يُرغم الحزب على إماطة اللثام عن وجهه الطائفي من جهة، وعن حراسته للنظام من جهة ثانية

يصعب التنبؤ بالمسارات النهائية للانتفاضتين اللبنانية والعراقية، فهذا سيعتمد على أشياء كثيرة يقع الكلام عنها خارج سياق هذه المعالجة. ومع ذلك، لا يصعب القبض على قواسم مشتركة ودلالات موحية في الحالتين. ولعل أبرز ما يسترعي الانتباه، في هذا الصدد، انكشاف هوية وماهية ما يشبه دائرة جهنمية مُغلقة يصعب أن ينجو منها أحد ما لم تطرأ تغييرات عميقة تطال بنية النظام السياسي، والنخب السائدة، وعلاقات القوّة في هذا المجتمع أو ذاك.

المقصود بالدائرة المُغلقة أن النخب السائدة في لبنان والعراق، مثلاً، لم تتشكّل نتيجة تطوّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية طبيعية بل تشكّلت في ظروف استثنائية تماماً، كانت سمتها الرئيسة الحرب الأهلية، في لبنان، التي استمرت بصفة رسمية قرابة خمسة عشر عاماً 1975-1990، وما زالت تستعر كنار تحت الرماد، بوتائر مختلفة حتى الآن.
  
وفي العراق، كانت سمتها الرئيسة الاحتلال الأجنبي، وتفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وصعود النخبة الحالية في ظل الاحتلال وبالتوافق معه، وهذا كله على خلفية سلسلة حروب تقاطعت وتشابكت في وقت واحد: حرب الإرهاب، والحرب الأهلية، وحرب مقاومة المحتلين. وقبل هذه كلها، الحرب العراقية ـ الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، وحرب الاحتلال الأمريكي. عاش العراقيون حروباً متلاحقة على مدار أربعة عقود. تداعيات هذه الحروب، وجراحها، ونارها تحت وفوق الرماد، مستمرة بوتائر مختلفة حتى الآن.

معنى هذا الكلام أن الظرف الاستثنائي أنجب نخباً حملت سماته، وتجلّت فيها نواقصه، وقد أدركت أن ديمومتها من ديمومته، وبالتالي أصبحت حارسة له، وعائقاً في وجه كل ما يهدده. وعلى الرغم من حقيقة أن النخب المعنية ليست متجانسة تماماً، ولا تتورع عن تبادل اللكمات، من وقت إلى آخر، إلا أنها متضامنة وذات مصالح مشتركة في العمق. وهذه المصالح، في التحليل الأوّل والأخير، هي ما يعيق صعود هوية وطنية جامعة أعلى من الانقسامات الطائفية ولجهوية.

ففي لبنان، مثلاً، يوجّه شركاء في الحكم، وأطراف في نخبة السلطة، انتقادات لحزب الله من وقت إلى آخر، ولا يتورع الحزب نفسه عن التصرّف كممثل لتيار شعبي عريض يتجاوز الانقسام الطائفي بشعارات وطنية ومتعالية باسم المقاومة والمُمانعة. ولكن خروج الناس إلى الشارع، وما يتجلى في فعل كهذا من روح وطنية لبنانية أصلية وأصيلة، أكثر عفوية وصفاء، يُرغم الحزب على إماطة اللثام عن وجهه الطائفي من جهة، وعن حراسته للنظام من جهة ثانية، ويفضح حقيقة أن الطائفية المُدانة في العلن هي الضامن الحقيقي لبقاء نظام الطوائف، وتعطيل نظام الهوية الوطنية الجامعة.

وهذا كله يصدق على العراق، ولكن بطريقة أكثر درامية ودموية حتى الآن. فالكل في نخبة الحكم العراقية، في بغداد، يدين بوجوده لنظام طائفي لا يتورّع عن وصف نفسه بالديمقراطي، بدليل الانتخابات والبرلمان، ولا يتردد في قتل المئات من المتظاهرين السلميين في الشارع، ولا يبرر رئيس وزرائه الاستقالة من منصبه، بعدما قتل المئات، بالرضوخ لإرادة الشعب، بل استجابة لإرادة أحد المراجع الدينية.

والمُدهش في الحالة العراقية أن سلسة حروب متلاحقة على مدار أربعة عقود، وما سال فيها من دماء، وما أحدثت من جراح، إضافة إلى البنية الطائفية الصريحة للنظام بعد الاحتلال الأمريكي، وتبعية أطراف قوية وفاعلة في النخبة السائدة، بالمعنى الأيديولوجي، والسياسي، لقوّة أجنبية هي إيران، أثارت فعلاً مخاوف مُبررة على الهوية العراقية الجامعة، إلا أن خروج العراقيين إلى الشارع أثبت أن الهوية الوطنية العراقية العابرة للانقسامات الطائفية والقبلية والجهوية ما زلت بخير، وأن النزعة الاستقلالية في هوية كهذه لا تقبل النفوذ الاستثنائي لإيران حتى وإن ساندته قوى محلية قوية وفاعلة.

الخلاصة، ونحن نشهد ما يجري في لبنان والعراق، هذه الأيام، بكثير من الترقّب والأمل، أن ما من أداة تصلح لكسر طوق الدائرة الجهنمية المُغلقة سوى الهوية الوطنية الجامعة. وإذا كنّا لا نعرف المسارات المحتملة لأمر كهذا، إلا أن في الحالتين ما يضفي على الاعتراف بالهوية الوطنية كطوق للنجاة، وخارطة للطريق، دلالات وشهادات وبراهين حيّة، وواقعية تماماً، وجديدة.