رضيع مصاب بالحصبة (أرشيف)
رضيع مصاب بالحصبة (أرشيف)
الجمعة 6 ديسمبر 2019 / 19:31

ضوضاء في المحيط الهادئ

ثمة ما يناقض السكينة والهدوء في عرض المحيط الهادئ، وعلى بُعد 7 ساعات تقريباً من السواحل الأسترالية. لقد تفشى مرض الحصبة في دولة ساموا، المكونة من جزيرتين رئيستين لا تتجاوز مساحتهما 2819 كيلومتراً مربعاً.

حملات التجهيل والتدمير الممنهجة لا تحتاج إلى أكثر من شعور مبدئي بالهلع، أو تسرّب شائعة مريبة، أو انتشار نتيجة غير مؤكدة لإحدى الأبحاث

والسامويون لا يبالغون إطلاقاً في تسميتهم لموجة الحصبة الحالية بـ"الموت الأسود"، تشبيهاً بالطاعون الذي فتك بلندن في القرن الـ14. فقد تم رصد أكثر من 4 آلاف حالة حتى الآن، مع تسجيل أكثر من 200 حالة جديدة في بعض الأيام. كما تخطى عدد الموتى الـ60 مواطناً أغلبهم من الأطفال تحت الـ 15 عاماً.

الأرقام لا تبدو مهولة، فـ "دبي مول" وحده يستقبل في أي "خميس ونيس" أكثر من 50 ضعف حالات الحصبة المُسجلة في ساموا بأسرها. ولكن النسب لا تكذب، وهي اليوم تشهد بتمكن الحصبة من 2% من إجمالي عدد سكان البلاد، لتعلن حالة الطوارئ رسمياً!

إن الموت بات يحاصر جزر ساموا من كل الجوانب. وكلنا واقعياً معرضون للغرق تحت تأثير نفس البحر الهائج.

في 2018، ارتكبت ممرضتان في ساموا خطأً كارثياً عندما أهملتا في تحضير لقاح الحصبة لتطعيم طفلين رضيعين. فعوض خلط مسحوق اللقاح بالماء، خلطتاه مع مُخدر مُنتهي الصلاحية، لتكون الحصيلة مقتل الطفلين المسكينين.

لقد كان خطأ بشرياً بشعاً، وإن كنت شخصياً لا أملك المعرفة الطبية الكافية لشرح حيثياته ومسبباته.

ولكن حملات التجهيل والتدمير الممنهجة لا تحتاج إلى أكثر من شعور مبدئي بالهلع، أو تسرب شائعة مريبة، أو انتشار نتيجة غير مؤكدة لأحد الأبحاث.

ولستم في حاجة لأذكركم بقوة "الشطحة" التي ربطت بين التطعيم والتسبب في التوحد، التي صمدت منذ التسعينات وحتى يومنا هذا رغم نفيها مراراً وتكراراً.

للأسف، أنصاف المعلومات تعد أكثر من كافية للهدم ما أن يُسمح لها بزعزعة يقين الجماهير، فنحن نرمي عندها القاعدة الشهيرة القائلة، إن "الارتباط لا يقتضي السببية" من أقرب نافذة، ونستسلم لنظرية المؤامرة، والتي غالباً ما تُقدّم لنا في رزمة جذابة، توهمنا بأننا أعلى وعياً من الآخرين.

خطأ بشري جائز، ولكنه استُغل بشطارة وحرفية، فتعرض السكان البالغ عددهم 200 ألف فقط في ساموا إلى "قصف شديد" من البروباغندا التي تُشيطن التطعيم تماماً بعد مقتل الرضيعتين.

وربما كانت أقوى تجليات الحملة في ظهور المبشرين بالطب البديل، والذي راحوا ينشرون دجلهم تزامناً مع محاربة التطعيم، فأحدهم يُقسم بجدوى فيتامين أ في علاج الحصبة، والآخر يدعي شفاءها بالماء القلوي!

ونجحت الحملة، إذ هبطت نسبة متلقي تطعيم الحصبة من قرابة 90% إلى 31% فحسب من أطفال ساموا، لتبقى الشريحة الأعرض في مرمى نيران الخطر، والذي لم يخطئهم، كما رأينا أخيراً. بل لم ينتظر مطولاً ليصوب نحوهم.

فهل من متعظ في زمان أكاذيب "الواتس آب" وباعة الوهم؟