شعارا حماس وحزب الله (أرشيف)
شعارا حماس وحزب الله (أرشيف)
الأحد 8 ديسمبر 2019 / 20:26

المقاومة كنقيض للحرية..!

نجمت عن اختطاف جماعات الإسلام السياسي لفكرة المقاومة تداعيات سلبية تضع الفكرة كسياسة وأيديولوجيا في تعارض مع قيم كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة

 اكتسب تعبير المقاومة مكانة مركزية، وشبه مقدّسة، في العالم العربي بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967. ولكن تحليل تطوّر فكرة المقاومة كأيديولوجيا، وتجليات تنظيمية، وأسلوب عمل، لم يخضع للنقد والتحليل حتى الآن، رغم تبدّل الأيديولوجيا، والتنظيمات، وأساليب العمل.

تعود لحظة التحوّل الأهم، على الأرجح، إلى أواخر السبعينيات، مع موجة الإسلام السياسي، واكتشاف ما في المسألة الفلسطينية، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، عموماً، من طاقة تحريضية عالية تساعد في توسيع القاعدة الاجتماعية، ورأس المال السياسي، للموجة الصاعدة.

بدا الأمر، للوهلة الأولى، وكما تنص تحليلات كثيرة، وكأنه نتيجة طبيعية لانحسار القومية العربية كأيديولوجيا بعد الهزيمة الحزيرانية. ولكن أحداً لم يتوقف كثيراً للتفكير في حقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين، وهي الأم الفعلية لكل جماعات الإسلام السياسي، كانت قد ابتعدت حتى ذلك الوقت عن المقاومة الفلسطينية، ناهيك عن إدانتها، وهي التي جاءت كردة فعل قومية عربية على الهزيمة، وأن الإسلام السياسي لم يأت لسد فراغ نجم عن "انحسار القومية العربية"، بل جاء لطردها من الحقل السياسي العام.

ويكفي، هنا، القول إن القومية كأيديولوجيا أصبحت أكثر راديكالية، بعد الهزيمة الحزيرانية، بعدما عمّقت العلاقة بحركة التحرر القومي في العالم الثالث، بعدها الاجتماعي والطبقي. وإذا فكرنا في أمر كهذا استناداً إلى حقيقة أن جماعات الإسلام السياسي الصاعدة، في ذلك الوقت، لم تنجم عن ضغط من أسفل إلى أعلى، أي نتيجة حراك شعبي، بل نجمت عن ضغط من أعلى إلى أسفل، أي نتيجة دعم حكومات قائمة، تتجلى الدلالات الفعلية الأيديولوجية والسياسية لتمكين تلك الجماعات، وطرد القومية من الحقل السياسي العام.

والواقع أن التاريخ السياسي لحماس وحزب الله يصلح كوسيلة إيضاح في معرض التدليل على أمر كهذا. فالأولى، وهي الجناح الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين، افتتحت صعودها في قطاع غزة، على نحو خاص، وحتى قبل الإعلان عن انطلاقتها بصفة رسمية، بالهجوم على مقر جمعية الهلال الأحمر، في مدينة غزة، وإحراق مكتبة تضم آلاف الكتب بدعوى أنها "شيوعية". وقد أدار، وأشرف على، الجمعية والمكتبة في ذلك الوقت الدكتور حيدر عبد الشافي، أحد رموز الحركة الوطنية الفلسطينية.

وفي لبنان، وُلد حزب الله، وهو الجناح العسكري والسياسي لنظام الولي الفقيه في إيران، على سرير التحالف بين نظام الأسد والنظام الإيراني. كانت للنظام السوري اليد الطولي في لبنان، في لحظة ولادة وصعود الحزب، وقد وفّر له الظروف الموضوعية، لاحتكار مشروع المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان بعد حرب 1982، رغم أن المبادرة الأولى للمقاومة جاءت من جانب ما عُرف في حينها بالحركة الوطنية اللبنانية. ومن واجبنا التذكير، هنا، بالشهيدة سناء محيدلي، التي قامت بأول عملية فدائية انتحارية ضد المحتل الإسرائيلي في جنوب لبنان.

تتجلى كل هذه العلامات، منظوراً إليها بأثر رجعي، بطريقة جديدة الآن. فلم يكن في وسع أحد حتى وقت قريب أن يجد عدداً لا بأس به من المستمعين إذا تكلّم، مثلاً، عن الهوية الاجتماعية الرجعية والمحافظة للحركة والحزب. ولم يكن في وسع أحد حتى التفكير في أشياء من نوع أن "المقاومة" يمكن أن تكون عائقاً أمام حقوق من نوع المساواة والعدالة الاجتماعية، وأن القائمين عليها يمكن أن يكونوا حرّاساً لأنظمة تكرّس اللامساواة، والانقسام الأهلي، ومصادرة الحقوق والحريّات.

هذه أشياء جديدة، تماماً، لم تضح بصورة كافية إلا بعدما أصبحت حماس صاحبة سلطة الأمر الواقع في غزة، وأصبحت لديها ما يكفي من أدوات القمع لتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات. وبالقدر نفسه، لم تتضح بصورة كافية في لبنان، إلا بعدما كشف انخراط حزب الله في الحرب الأهلية السورية إلى جانب نظام الأسد، حقيقة دوره الإقليمي، الذي لا يمت إلى المسوّغات التقليدية الأيديولوجية والسياسية للمقاومة بصلة. وها هو يتضح مجدداً بعدما كشفت ثورة اللبنانيين حقيقة حراسته لنظام المحاصصة الطائفية.

بمعنى أكثر مباشرة: نجمت عن اختطاف جماعات الإسلام السياسي لفكرة المقاومة تداعيات سلبية تضع الفكرة كسياسة وأيديولوجيا في تعارض مع قيم كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. وفي هذا كله ما يستدعي، ويحض بالتأكيد، على ضرورة إعادة الاعتبار إلى المضامين القومية، والدلالات الأصلية للمقاومة. لن يتحقق هذا بين ليلة وضحاها، ولكن موجة الإسلام السياسي تنحسر، الآن، في مناطق مختلفة من العالم العربي، وثمة الكثير مما يستدعي إعادة النظر والتفكير والتدبير.