الإثنين 9 ديسمبر 2019 / 13:49

مشكلة أمريكا مع تركيا ليست ترامب ولا أوباما

حض الباحث في معهد المشروع الأمريكي مايكل روبين صناع القرار في أمريكا، وبغض النظر عن الحزب الذي ينتمون إليه، على اعتماد مقاربة جديدة لتركيا بعيداً عن الأماني. وأوضح في مجلة "أمريكان إنترست" أن الديبلوماسيين والأكاديميين في واشنطن يلومون غالباً الحزب المناوئ على أي فشل في السياسات الخارجية عوض الاهتمام بالقرارات المتعمدة التي يتخذها خصوم البلاد.

على الكونغرس محاسبة تركيا على أفعالها بالحد الأدنى، أكان عبر قانون كاتسا أو عبر قانون غلوبال ماغنيتسكي

ومع نزوح مئات الآلاف من الأكراد بعد التوغل العسكري التركي في سوريا، تحرك معارضو ترامب سريعاً لتحميله المسؤولية، بينما لام الرئيس الأمريكي ومؤيدوه سذاجة إدارة أوباما لتهيئتها الأرضية أمام رد الفعل التركي.

يؤكد روبين أن المشكلة مع تركيا ليست ترامب ولا أوباما، بل رجب طيب أردوغان، وهو أكثر رئيس تركي تأثيراً بعد مصطفى كمال أتاتورك وصاحب ثاني أطول مدة حكم بعد خليفة أتاتورك، عصمت إينونو.

صدم أردوغان السياسات الانتخابية في 2002، ليس لأن حزبه دخل البرلمان، بل لأنه سيطر عليه بفضل صدفة انتخابية. وطيلة 16 عاماً من حكمه، استغل أردوغان موقعه لإعادة صياغة تركيا بشكل جوهري.

وهم خطير
مع تعزيز قوته، أصبحت أهداف أردوغان أكثر وضوحاً. يواصل المسؤولون الأمريكيون إراحة أنفسهم بالاعتقاد أن تركيا ستعود إلى سابق عهدها بعد وفاة أو خسارة أردوغان. لكن ذلك وهم خطير، إذ حصل أكثر من 32 مليون تركي على تعليمهم تحت قيادة الرئيس الحالي.

وفي عهده تغير المنهج الدراسي التركي للترويج لأجندتي أردوغان في الدين والسياسة الخارجية.

وأعطى امتيازاً لخريجي مدارس الإمام الخطيب في إطار سعيهم لدخول بيروقراطية الدولة.

وحول أردوغان أيضاً الجيش التركي، أين قضى كل جندي أو ضابط تقل رتبته عن المقدم مسيرته كاملة تحت حكم أردوغان. واستخدم الأخير سلسلة من المؤامرات الانقلابية، إرغينيكون في 2008، وبايلوز في 2010، وانقلاب 2016، ليتخلص من كبار القادة الذين رأى أنهم مرتبطون جداً بحلف شمال الأطلسي، ناتو أو الغرب. وأصبح الجيش اليوم قوة دافعة وراء الإسلاموية.

قمع الإعلام الحر
أكمل اعتداء أردوغان على الصحافة الحرة استراتيجيته للتلقين الوطني. وأدى التدقيق المسيس والعقابي ضد معظم أصحاب الوسائل الإعلامية إلى تضخيم مواقف أردوغان أو إلى بيع تلك الوسائل إلى أردوغان، أو إلى مقربين من عائلته.

أما الآخرون، الذين لم يفهموا الرسالة، فوجدوا أنفسهم مفلسين، أو مسجونين، أو منفيين أو موتى. اليوم، فإن الإعلام التركي المستقل الوحيد، هو الإعلام الإلكتروني والمنشور في الخارج.

وأصبحت تركيا اليوم مثل روسيا، يخضع الشعب فيها إلى لقصف مستمر بالبروباغندا والمؤامرات.

صفر
تخلص أردوغان من البراغماتية التي اعتنقها علناً قبل انتخابه، وبدأ يجري تغييراً جوهرياً في المجتمع والسياسة الخارجية.

ووفق إحصاءات الحكومة التركية نفسها، ارتفعت الجرائم ضد النساء 1400% في السنوات السبع الأولى من حكمه، وفي معظم الأحيان بسبب تجاهل جرائم الشرف، وارتفعت نسبة زواج القصر أيضاً.

دفعت النساء في الحكومة ثمن جهود أردوغان لإدخال المحافظين الدينيين إلى الوظيفة، في حين كانت تركيا واحدة من أول الدول ذات الغالبية المسلمة التي قادتها إمرأة سياسية، لا تتجاوز أعداد النساء في المستويات الثلاث الأولى في وظائف الدولة والمحافظات اليوم، الصفر.

الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟
شهدت تركيا تحولات في السياسة الخارجية بمقدار التحولات في برنامجها الداخلي. وشدد الديبلوماسيون الأتراك على الاستمرار في الالتزام بمسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ولكن دوافع تركيا تغيرت، ومعها أهدافها العامة أيضاً. لم يؤيد أردوغان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلا ليعطي القوة الديبلوماسية لجهوده لسحب الجيش من السياسة المدنية، وهو الذي أدى دوره الواسع ضامناً للدستور.  واستغل أردوغان مسار الانضمام إلى الاتحاد ليتخلص من القيود الدستورية ليعزز سلطته ويروج للإسلاموية. وعندما حقق هذه الأهداف أدار ظهره لبروكسل.

بين العثمانية والإخوانية
سعى أتاتورك لاستغلال قوته الديكتاتورية لإعادة توجيه بلاده صوب الغرب. أما أردوغان بأقدم على العكس. روج أساساً للنيوعثمانية، لكنه فشل في كسب الدعم إقليمياً، لأن الشعوب التي خضعت للأتراك تاريخياً لم تشاركه شغفه بذكرى الحقبة العثمانية.

واستاء جيران تركيا من الرجعية المستوحاة من العثمانية مع اقتراح السياسيين والصحف في تركيا علناً ضم تركيا لأراضٍ على طول حدودها. وحوّل أردوغان موارد هائلة، تركية وقطرية، للترويج لعالم برؤية إخوانية.

كانت تلك مقاربة دينية واصلت زرع بذور الانقسام في تركيا، وفي الشرق الأوسط، فإن الإحصاءات السكانية غير دقيقة بشكل عام، ويتضاعف ذلك في تركيا بسبب التنوع الإثني والطائفي، في ظل ما لا يقل عن 20% من الأتراك العلويين، الذي قابلهم أردوغان وأتباعه بالعدوانية.

دعمت الإدارات التركية السابقة ودمجت المجتمع العلوي. ولكن أردوغان استخدم سياسات التمييز ضدهم وهدم جدران القاعات التي يصلون فيها. في موقف متناسق مع غياب التسامح لدى الإخوان.

وتفسر هذه المواقف جزئياً عدوانية أردوغان ضد حليفه السابق فتح الله غولن، بعد أن عمل الاثنان عن كثب في العقد الأول من حكم أردوغان، حين كانت العلمانية عدواً مشتركاً. لكن بعد انتصار أردوغان على الكماليين استهدف أردوغان غولن لأن أتباعه يعتنقون صوفية أناضولية أكثر اعتدالاً من خط الإخوان المسلمين.

تشبه بإيران

إن رغبة أردوغان في قيادة العالم الإسلامي عززت مناوءته للسعودية، خاصةً بعد استغلاله لجريمة اغتيال خاشقجي المثير للسخرية، خاصةً في ظل وصف منظمة مراسلون بلا حدود، تركيا بـ"أكبر سجان للصحافيين في العالم"، فأردوغان الذي لا يأبه بحرية الصحافيين الذين طردهم، وسجنهم، أو قتلهم، استغل القضية ضد المملكة مثل طهران.

ولا تتوقف جهود أردوغان في الترويج للإسلاموية ومناهضة الغرب عند هذا الحد.

في السنوات الأخيرة ركز السياسة الخارجية التركية على أفريقيا، إذ تُصدر أنقرة بيانات ديبلوماسية لإظهار الكرم التركي.

نمت الخطوط الجوية التركية في سنوات لتصبح واحدة من أبرز الشركات الجوية التجارية في القارة. وحول أردوغان المدارس والملكيات التي استولى عليها من غولن إلى مؤسسة معارف التي أسسها حزبه للترويج لتفسير متطرف للإسلام.

وأسس أيضاً شبكة مؤسسات يونس إمره، لتدريس الطلاب الأفارقة في المدارس الدينية التركية. وتروج تركيا لقاعدتها في الصومال باعتبارها مؤشراً على التزامها بمحاربة التطرف، في الوقت الذي تعمل فيه منظمة سادات الإسلاموية شبه العسكرية التي أنشأها كبير مستشاري أردوغان العسكريين بتدريب مجندين أفارقة، وبشفافية أقل بكثير.

تعريف أردوغان للإرهاب
يقول المسؤولون الأتراك إن بلادهم حليف في الحرب ضد الإرهاب. وهذا ما كرره أردوغان في زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض.

ولكن ذلك يعتمد على تعريف أردوغان للإرهاب، ففي 2012، حين اجتاحت القاعدة شمال مالي، دافع أحمد كافاش، أحد المعينين من قبل أردوغان عن القاعدة في مواجهة التدخل الفرنسي، قائلاً: "القاعدة مختلفة كثيراً عن الإرهاب".

وبعد عامين، برز شريط مسجل لاتصال بين ممثل عن الخطوط التركية، ومكتب أردوغان أشار إلى استخدام الاستخبارات التركية الطائرات الرسمية لتهريب الأسلحة إلى بوكو حرام.

واستخدمت تركيا التلاعب بالكلمات لتبرير دعمها العلني لحماس، وللتغاضي عن أسئلة حول دعمها السري لفروع القاعدة في العراق، وداعش الذي عبر أكثر مقاتليه تركيا للوصول إلى سوريا.

وبالفعل، تبدو تصريحات أردوغان بالتركية متناقضة غالباً مع تصريحاته الأكثر ليونة بالإنجليزية. إن ضم المقاتلين المدعومين من تركيا عشرات المقاتلين القدامى في داعش يظهر أن تعريف أردوغان للإرهاب لا يشبه مطلقاً تعريف الغرب له.

منظمة للدفاع الجماعي 
في يجادل الديبلوماسيون الأمريكيون من الأهمية للولايات المتحدة، ما لا يسمح بالتخلي عنها، فإن سبب الشرخ الحقيقي بين الدولتين، أنقرة.

ووفق استطلاعات رأي شركة بيو غلوبال أتيتيودز، فإن تركيا من بين أكثر الدول المناهضة لأمريكا في العالم. والأمر ليس صدفةً، وفقاً لروبين، بل هي نتيجة أكثر من عقد من التحريض ضد الأمريكيين عبر الإعلام الذي تسيطر عليه الحكومة.

واستدارة تركيا نحو روسيا، انعكاس لعدوانية أردوغان ضد أمريكا، والقول إن أردوغان يسعى لتأمين أفضل صفقة لبلاده، لا يلمس جوهر الموضوع. فالناتو أولاً، هو منظمة دفاع جماعي في وقت الأزمات وليس فرصة لأعضائه لإطلاق حروب مناقصات للحصول على الأموال، أو التنازلات، أو العقود.

وثانياً، يتجاهل هذا التبرير ترقية أردوغان لمستشارين وحلفاء مثل المستشار العسكري عدنان تانريفردي أو السياسي، والناشط دوغو بيرينشك المؤثر جداً في القيادات التركية العليا، والمنتقد الحاد للناتو، والمؤيد لروسيا.

ميل مؤسف
يضيف روبين أن المؤرخين سيتناقشون مطولاً، كيفية وزمن خسارة الغرب لتركيا. ولكن التفكير القائم على الأماني، عنصر ساهم في هذه الخسارة، في ظل ميل مؤسف لكنه واسع الانتشار بين أبرز المسؤولين الأمريكيين عن صنع السياسة، لتمني مواقف الدول، عوض النظر إلى ما هي عليه فعلاً.

وأدى هذا الميل إلى غض النظر عن تحدي الصين للولايات المتحدة، والأمر نفسه يجري مع تركيا، ليس من ترامب وحده بل من أوباما وبوش الابن قبله، إلى رفض الاعتراف بتحويل أردوغان لتركيا من شريك موثوق، إلى عدو إقليمي، إن لم يكن دولياً.

وحث الباحث الديموقراطيين على أن تكون تركيا جزءاً أساسياً من النقاش حول سياستهم الخارجية في الحملات الانتخابية المقبلة.

 إنجرليك وقبرص 
شدد الكاتب على أن الأمن القومي يجب أن يدفع الأمريكيين للاعتراف بأن تركيا جزء من المشكلة لا من الحل، وعلى أن استرضاء تركيا في قضايا تمس الأكراد، أو قبرص، أو سوريا أو أي مسألة أخرى يشجع أردوغان على طلب المزيد.

قد يكون من المستحيل طرد تركيا من الناتو لكن لا سبب يدعو لرفض عزلها في المنظمة واستثنائها من الاجتماعات عندما يكون ذلك ممكناً.

وطالب الكاتب بتعديل سرية بعض الوثائق حتى لا يطلع عليها المسؤولون الأتراك، مطالباً البنتاغون برفض إعطاء تركيا أعذار بسبب قاعدة إنجرليك. مشدداً على أن على الولايات المتحدة ألا تنقل أسلحتها النووية من الأراضي التركية فقط، بل عليها أيضاً دراسة إخلاء إنجرليك خاصةً أنها تملك بدائل في رومانيا، والأردن.  

وعلى الديموقراطيين، حسب الكاتب، مواصلة الالتزام بالمزيد من الخطوات لتشجيع التعاون العسكري بين الولايات المتحدة، واليونان، وقبرص. وعلى واشنطن الوقوف بحزم إلى جانب قبرص لإنهاء الاحتلال التركي الذي دام 45 عاماً، وتوفير الوسائل لتفادي سرقة أنقرة مواردها البحرية. وأنه لا سبب يبرر استمرار واشنطن في تبييض سجل تركيا في الإبادة الأرمنية.

تركيا القديمة انتهت
يُرجح الكاتب أن تركيا واحدة من المسائل التي توحد الديمقراطيين والجمهوريين على المصالح الأمريكية، وعلى الكونغرس محاسبة تركيا على أفعالها بالحد، واءً عبر قانون كاتسا، أو بقانون غلوبال ماجنيتسكي لمعاقبة المسؤولين الأتراك الذين شاركوا أو استفادوا من الاعتداءات على الحريات الإعلامية.

وعلى خلفية التطهير العرقي للسوريين الأكراد، يمكن للكونغرس دعوة المسؤولين الأكراد للتوجه إلى اللجان البارزة في جلسة مشتركة.

وأكد روبين أهمية تقدير الأمريكيين للتضحيات التركية. لكن ذلك الجيل الذي وقف إلى جانب أمريكا رحل، أو سُجن، أو تقاعد. واليوم، فإن الحقيقة واضحة جداً. أي احتمال لميل تركيا نحو الغرب انتهى.

بات لزاماً على ترامب أو الديموقراطي المحتمل الذي سيخلفه أن يتعامل مع الواقع التركي الاستراتيجي الجديد.