جمال باشا أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي التركية (أرشيف)
جمال باشا أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي التركية (أرشيف)
الأربعاء 11 ديسمبر 2019 / 20:29

تاريخ أسود

السكن الرسمي لرئيس الجمهورية، وهو قصر تشانكايا بأنقرة، كان منزل أسرة كاسابيان الأرمينية التي عمل أفرادها الأثرياء في تجارة المجوهرات

وثّق الباحث الفرنسي ميشيل برونو في كتابه (من آسيا الصغرى إلى تركيا) "الأقليات، فرض التجانس الإثني- القومي، جماعات الشتات"، أحدث إحصائية لجرائم تركيا في حق الأرمن، بالأرقام التالية. قبل الحرب العالمية الأولى، كان يعيش داخل حدود الإمبراطورية العثمانية نحو مليوني أرميني، يمتلكون 2538 كنيسة، و451 ديراً، و1996 مدرسة.

وفي نهاية الحرب فقد 2900 موقع سكاني أرميني (القرى والمدن والحارات)، معظم سكانه الأرمن الذين هُجِّروا، أو هاجروا، أو أُبيدوا. أما اليوم، وباستثناء إسطنبول، فيمتلك الأرمن ست كنائس في كامل تركيا، ولم يعد لديهم أي دير، أو مدرسة.

كان وراء جملة القرارات التي اتخذها أعضاء اللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي (CUP)، والتي أدّت إلى إبادة جماعية للأرمن، حدثان مهمان، الأول في فبراير (شباط) 1914، حين انهزم الجيش العثماني أمام الجيش الروسي الذي تقدم، إثر فوزه، في شرق الأناضول، وفُرض على العثمانيين اتفاق أرميني، بموجبه يحق للأرمن الاستقلال الذاتي في مقاطعتين كبيرتين شرق الأناضول، وتحت إشراف مفتشين أجنبيين.

اعتبر الاتحاديون الأتراك خطوة الاتفاقية الأرمينية، ذهاباً إلى دولة أرمينيا المستقلة، وهي خطوة مشابهة لتلك التي أدّت إلى فقدان الدولة العثمانية، لأراضي البلقان. كانت الوسيلة الوحيدة للتخلص من اتفاقية الأرمن، بالنسبة للاتحاديين الأتراك، هي خوض الإمبراطورية العثمانية، الحرب في فبراير (شباط) 1914.

أمّا الحدث الثاني الذي تزامن مع الهزيمة الأولى، هو هزيمة أخرى، تكبدها جمال باشا، أحد زعماء الاتحاد والترقي، أمام البريطانيين في مصر. دفع هذا الوضع الكارثي الاتحاديين الأتراك إلى إضفاء طابع التطرف على سياسة ارتسمتْ معالهما في سنوات سابقة، وسهّل تطبيقها، دخول الإمبراطورية العثمانية، الحرب إلى جانب ألمانيا، ضد القوى الغربية، وروسيا.

في شهري مارس (آذار)، وإبريل (نيسان) 1915، رُحِّل أرمن دورتيول، وزيتون، من منطقة كيليكيا إلى قونية داخل الأناضول، وبحلول نهاية إبريل (نيسان)، اتخذت قرارات جديدة لترحيل كل الأرمن نحو سوريا وبلاد الرافدين، أي إلى صحراء دير الزور، وباتجاه الموصل.

تمكن الباحثون الأتراك، تانر آكتشام، وأوغور أوميت أونغور (2012)، وفؤاد دوندار (2014)، الذين اطلعوا على الأرشيف العثماني، من الوصول إلى البرقيات المشفرة التي أرسلها طلعت باشا إلى المقاطعات بهدف التنظيم الدقيق، والمراقبة الفعالة للترحيل الذي نتجتْ عنه إبادة قسم من المهجرين.

كانت سياسة "الهندسة الديموغرافية"، المطبقة على كل الأقليات غير التركية التي يجب ألا تتعدى نسبتها ما بين 5 و10 في المائة من سكان كل مقاطعة، أو ولاية، أشد قسوة على الأرمن المرحلين الذين خُصص لهم نحو عشرين مكاناً في سوريا، وبلاد الرافدين، على ألا تتجاوز نسبتهم 5 في المائة من السكان المحليين المسلمين المنتمين إلى قبائل عربية، وفق معايير سياسة "الهندسة الديموغرافية" المتشددة.

طبقت حكومة الاتحاديين في عمليات التهجير والمجازر التي استهدفت الأرمن في عام 1915، ما عُرف ب "حركية الاتجاهين"، التي وصفها الباحث تانر آكتشام فيما يخص طرد اليونانيين من سواحل بحر إيجة، وهذا ما تظهره وثائق الأرشيف المتعلق بمحاكمات زعماء جمعية الاتحاد والترقي (CUP)، بإسطنبول في الفترة ما بين 1919، و1921.

"حركية الاتجاهين" كانت تعني، أن من جهةٍ صدرت قرارات بتهجير الأرمن، وأُرسلت تلك القرارات بطريقة رسمية إلى المسؤولين المحليين، وحكام الولايات والمقاطعات، ومن جهةٍ أخرى، وبالموازاة، والتزامن، أُعطيت أوامر بالإبادة، أرسلتها اللجنة المركزية للاتحاد والترقي، عن طريق بريد خاص، وتضمنت الأوامر أيضاً، بإزالة أي أثر للمراسلات بعد قراءتها.

وفق التقديرات، نجا من الموت خلال عمليات التهجير، نحو 500 ألف أرميني من بين 1,3 مليون أرميني كانوا يعيشون داخل الإمبراطورية العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى. وجد الناجون الأرمن أنفسهم داخل مُحتشدات سوريا، وبلاد الرافدين، وفاق عددهم 10 في المائة من السكان المحليين، وهي نسبة مهددة لقصَّابي الاتحاد الترقي، وهكذا بدأتْ موجة مجازر ثانية في شهر مارس (آذار) 1916.

تقلص عدد الأرمن بعد موجة المجازر الثانية إلى 200 ألف، وحدثتْ معظم المجازر في دير الزور. كان هدف الاتحاديين الأتراك، هو إبادة العرق الأرميني، والقضاء نهائياً على هويتهم الثقافية، وذلك بتعويم الباقي منهم في كتلة السكان المحليين الأتراك.

عمل الاتحاديون على تحويل أملاك الأرمن إلى ملكية الطبقة المتوسطة الناشئة التركية، وشجعوا على المزيد من استعمار الأملاك الأرمينية، وأُلحقتْ أخرى بأملاك الدولة والجيش التركي.

جنت الدولة التركية فوائد جمة من اغتصاب أملاك الأرمن، فعلى سبيل المثال، السكن الرسمي لرئيس الجمهورية، وهو قصر تشانكايا بأنقرة، كان منزل أسرة كاسابيان الأرمينية التي عمل أفرادها الأثرياء في تجارة المجوهرات. وكانت الحكومة العثمانية قد صادرتْ المنزل في شهر أغسطس (آب) 1915، بعد صدور أمر بترحيل أسرة مالكه.

وفي عام 1921، أهدتْ بلدية أنقرة منزل أسرة كاسابيان الأرمينية إلى مصطفى كمال أتاتورك الذي جعله منزله الرئيسي، ربما نكايةً، وربما رمزاً للقوة الباطشة، المغتصبة، والغل الكريه للأرمن.