من عرض"16 يوما ضد العنف".(أرشيف)
من عرض"16 يوما ضد العنف".(أرشيف)
الخميس 12 ديسمبر 2019 / 23:40

وثيقة الاستقلال..المرجعية المغيبة

تحصد فلسطين النتائج القاسية التي تراكمت عبر سيطرة ثقافة بائسة مثلتها شريحة واسعة ومتنفذة من "النخبة السياسية"، التي حدثت بعد "وثيقة إعلان الاستقلال" في نهاية ثمانينات القرن الماضي

كما لو أنه موسم نضوج الثمار الفاسدة، هكذا يبدو الأمر في فلسطين منذ فترة، إذ يتلاحق تساقط ثمار السياسات الارتجالية والسكوت والإرضاء وغياب الرؤية الواضحة، وحسبة التوازنات الصغيرة المضحكة، وسياسة التلطي خلف "الأخلاق" و"العادات" و"قيم المجتمع"، ومؤخراً أضاف أكاديمي في جامعة النجاح الحفاظ على "تاريخ جامعته" لهذه التبريرات، بعد أن زج بالمناضلين الوطنيين والشهداء الذين درسوا فيها لأسباب كثيرة يتعلق بعضها بالمواصلات والسكن، لتمرير بؤسه الثقافي، كان ذلك في معرض تبرير وقف عرض مسرحي لفنانة شابة في اختتام فعالية "16 يوما ضد العنف"، وبحضور وزيرة المرأة في السلطة الفلسطينية وممثل منظمة اليونسكو في فلسطين وآخرين.

وقف العرض المسرحي في جامعة النجاح ليس حادثاً منقطعاً عن سياق كامل من الإهانات الموجهة للمنجز الثقافي الفلسطيني ورموزه، ولا ينبغي التعامل معه على هذا النحو، أو محاسبته بالقطعة كما جرت الأمور خلال الفترة الماضية، فقد بات يشكل نهجاً يشمل المشهد الثقافي الفلسطيني ويحظى بغطاء رسمي، ويترك آثاره العميقة والضارة على مختلف شرائح المجتمع عبر تنفذه في مفاصل المؤسسة بمختلف مسؤولياتها، التربوية والقضائية والأمنية والثقافية والاقتصادية.

وحادثة جامعة النجاح بغرائبيتها التي اختتمت موسماً ثقافياً كرس لمناهضة العنف ضد المرأة، بصعود "موظف الجامعة" على الخشبة وتقديمه عرضاً ذكورياً مبتذلاً حول التاريخ والأخلاق، كبديل لعرض الفنانة الشابة "عشتار معلم"، يشكل بعناصره الأربعة المكان (جامعة الشمال الرئيسية)، وأسلوب المنع (قطع الكهرباء والاستيلاء على خشبة العرض)، والمحاضرة الأخلاقية (خطاب بلاغي وتحريضي سائد) ثم صمت الصف الأول (ضم إضافة إلى حاشية ومسؤولين وزيرة المرأة ومدير مكتب منظمة اليونسكو)، هذه الحادثة قدمت، دون قصد، عرضاً واقعياً متكاملاً لواقع الثقافة ومفهوم حقوق المرأة في مرجعيات السلطة في فلسطين.

تحصد فلسطين النتائج القاسية التي تراكمت عبر سيطرة ثقافة بائسة مثلتها شريحة واسعة ومتنفذة من "النخبة السياسية"، التي حدثت بعد "وثيقة إعلان الاستقلال" في نهاية ثمانينات القرن الماضي، الذي وضع إطاراً كثف المنجز الثقافي/السياسي الفلسطيني عبر مسيرة الثورة المعاصرة في وثيقة تشكل أهم مكتسبات المشروع الثقافي الوطني، وهو المرجعية التي تجاهلها المشرعون تحت سطوة القرارت الفردية والأفكار الصغيرة والمصالح الفصائلية والجهل.

"النخبة" المقصودة التي تعزز حضورها بعد "الانتفاضة الثانية" وتفاقم بعد "انقلاب حماس"، ما سمح، على سبيل المثال، أن يبرر "متنفذ"، يتمتع بالرسوخ وهبة البقاء وحظوظ كثيرة غامضة أخرى، ضرب النساء محتمياً بالشرع وحصانته الرسمية. وهو مثال يبدو مناسباً ونحن نتحدث عن مناهضة العنف ضد المرأة، الفعالية التي شهدت وقف عرض عمل فني صمم لهذه المناسبة.

لا يمكن فصل هذا الفهم، ضرب النساء، ومرجعياته الشرعية، عن حادثة الاعتداء بالضرب حتى الموت على الشابة "إسراء" من قبل أفراد من عائلتها في "بيت ساحور"، وهي القضية التي تحولت إلى رأي عام تجاوز الفضاء المحلي إلى العربي والعالمي وروج له إعلام الاحتلال كما يروج في العادة لكل ما يعزز الصورة النمطية حول تخلف المجتمع العربي ووحشيته، وما زالت جلسات محاكمة المتهمين تتوالى كاشفة في كل جلسة هشاشة وبؤس فهم كل مؤسسة لدورها المجتمعي والمهني، من الأسرة ومحيطها الاجتماعي إلى المستشفى ومفاهيم الرعاية الطبية إلى جهاز الشرطة ودوره في حماية الأفراد.

الاختلاف مع فتوى "المتنفذ" هنا هو في مستوى الضرب ودرجات الإيذاء وإحداث الضرر، ولكن في الجوهر ثمة تناغم واضح مع الفكرة، يمكن احتساب ابتكارات إبداعية من نوع إدخال موضوع "الجن" على رواية عائلة إسراء وهو اجتهاد، رغم تطرفه، نابع أيضاً من نفس منظومة الأفكار والتفسيرات التي تتلطى خلف فتاوى "شرعية" يتم استحضارها كل مرة لقهر المشاهدين، وهو ما حدث في جامعة النجاح عندما أشهر "موظف الجامعة" والناطق باسم تاريخها "فتواه" الأخلاقية في وجه العرض المسرحي والقاعة.

هذه الثقافة المتكئة على جواز ضرب المرأة وتعنيفها لا يمكن فصلها عن ظاهرة الجرائم وعمليات قتل النساء في المجتمع الفلسطيني، الجرائم البشعة التي تتغذى على مثل هذه الفتاوى، وتحظى على تسهيلات قانونية، ورعاية اجتماعية شملت اطلاق اسم "جرائم الشرف" بكل ما يحمله الاسم من دلالات "تسامح" وتحايل على العمل الاجرامي، هذه الجرائم التي تدرجت في اساليبها وصولاً إلى الأب الذي دفن ابنته حية في غزة الاسبوع الماضي في استعادة معاصرة لـ"تقليد" الوأد.

كما لا يمكن فصلها عن تضمين المناهج المدرسية نصوصاً لأشخاص مثل الداعية السعودي "عائض القرني" ومواصلة وزارة التربية الإيمان والاقتباس والتثقيف والاستشهاد وتلقين الطلبة بأفكاره ما يجعله نموذجاً ثقافياً لعشرات آلاف الطلبة ومصدراً لمعرفتهم، وملاذاً معرفياً لأولئك الباحثين عما يؤكد ذكوريتهم ويحول نزعتهم العدوانية وغضبهم اتجاه فساد السلطات نحو المرأة، ويغذي نزعة التسلط لديهم عبر منحهم سلطات "مقدسة" تكاد تكون مطلقة، وصلت حد أن أحد الأزواج منح نفسه حق اقتلاع عيني زوجته في الأردن مؤخراً.

الثقافة التي تمنح الحق بحجب مواقع على شبكة الانترنت لمجرد أنها تنتقد أشخاصاً في السلطة، بينما يشكل موقع الناطق باسم جيش الاحتلال نقطة جذب ومنصة حوار مفتوحة ومتاحة لجميع أبناء الشعب.

الثقافة التي تسمح بانتاج عمل فني بائس لمديح الرئيس، بما ليس فيه، وتبديد مئات آلاف الدولارات من المال العام، بينما يتهدد مؤسسات القدس الثقافية الاغلاق بسبب تراكم الديون وثقل الضرائب، ويتقاسم الفائزون بجوائز الدولة المكافأة المحدودة التي سمح بها "التقشف الحكومي"، ويستدين الكتاب الشباب تكلفة طباعة كتبهم على نفقتهم الخاصة... وهو ما ينطبق على المبدعين في مختلف حقول الابداع.

هذه مجرد نماذج المقصود منها الاشارة الى أن السلطة، بوعي او بدون وعي، تقود وتمول وتدعم وتتبنى موجة للثقافة المضادة، الثقافة القائمة على الاسفاف والجهل والمحاصصة الفصائلية، بما يتناقض مع المشروع الوطني المتنور الذي بشر به مثقفو فلسطين، أولئك الذين اسسوا للهوية الوطنية عبر الثورة المعاصرة.

ما يحدث هو أشبه بعملية اغتيال متواصلة ومعلنة لوثيقة إعلان الاستقلال، التي قام على صياغتها وترجمتها كل من الشاعر محمود درويش والمفكر إدوارد سعيد والأكاديمي إبراهيم أبو لغد، والتي عبرت بوضوح عن تطلعات وطموح وغايات الشعب الفلسطيني ورسمت أفق الدولة المنشودة، وهو ما يتطلب من المجتمع المدني بكافة قواه العمل على استعادتها وتعميمها وإشهارها، وإعادة التثقيف بأفكارها، في وجه تسونامي التخلف الذي ينهش جسد الثقافة ومنجزها.