عراق معلق رأساً على عقب في ساحة الوثبة في بغداد.(أرشيف)
عراق معلق رأساً على عقب في ساحة الوثبة في بغداد.(أرشيف)
الجمعة 13 ديسمبر 2019 / 19:35

عنف للاستهلاك

ما بت متيقنة منه هو أن نشر عنفهم -بغض النظر عن ضحيته- على هذا النطاق الواسع يمنحهم نشوة شيطانية مختلة

حشودٌ من الناس يتحلقون حول جثة شبه عارية ومثخنة بآثار الضرب والاعتداء، تتدلى رأساً على عقب من إحدى أعمدة الإنارة، نازفة ما تبقى من دمائها.
أعذركم تماماً إذا رفعتم رؤوسكم نحو السماء، وحدقتم بأفواه فاغرة في المشهد، فما حدث للمراهق العراقي هيثم علي إبراهيم من قتل وسحل، ومن ثم صلب، في "ساحة الوثبة" في بغداد، كان يبدو لشدة شناعته مقتبساً بشكل مباشر من تصورات دانتي أليجري لعذابات الجحيم!

ولكني اخترت أن أبقي رأسي منخفضاً، وأراقب جحيماً مختلفاً يستعر بهدوء على هامش ذلك المشهد الدموي.
دققوا في النصف السفلي من الصور ومقاطع الفيديو. سترون حشوداً غفيرة قُدّرت بالآلاف من المواطنين العراقيين وهي تتحلق حول الجثة، تيمم شطرها هواتفها الذكية، داعيةً على الأغلب بأن تحصد "اللقطة المثالية" لتخليد ذكرى الحدث.

لا أود أن أدخل في مونولوج مضجر عن "تطبيع العنف"، فأبدو أمامكم -وأمام نفسي- كالأمهات ذوات النزعة الدراماتيكية لتهويل كل شيء، واللاتي يسعين منذ سنوات لإيجاد وتصديق أي صلة مشكوك في أمرها بين الإجرام من جهة، ووفرة العنف المُقدّم من خلال ألعاب الفيديو والأفلام.

وبصراحة، لا أعلم أنا شخصيا ًإن كنت أُصدّق بالتحذيرات من "تطبيع العنف".
ولكن لنترك "ساحة الوثبة" لبرهة، ونوجّه أبصارنا إلى فلوريدا، حيث أقدم مؤخراً المتدرب السعودي محمد سعيد الشمراني على فتح النار بشكل جماعي على زملائه الطلبة في "محطة بنساكولا الجوية البحرية"، متسبباً بمقتل ٣ منهم.

تجمّدت أطرافي رعباً حينما لاحظت مجدداً الدور الذي لعبته كاميرا التصوير اللعينة في الجريمة.
فقبل تنفيذ مخططه الخبيث، كان الشمراني قد دعا ٣ من رفاقه المقربين في المحطة إلى منزله، حيث شاهدوا بعد تناولهم للعشاء مقاطع فيديو عديدة لعمليات إطلاق نار جماعية، الأمر كان إذاً أشبه بحلقات الدراسة والمراجعة الجماعية التي تشهدها بيوت الطلبة عشية أي اختبار جامعي عصيب!

أما أثناء إقدام الشمراني على فعله الإرهابي، فإن رفاقه قد "ردوا الجميل" إلى ذاكرة العنف الرقمية، وقاموا بدورهم بتصويره فيما كان يُردي "الكفّار" قتلى واحداً تلو الآخر. ولولا إلقاء القبض عليهم من قبل السلطات، وحيازة هواتفهم الذكية أو كاميراتهم، لربما كنا الآن نحدق رعباً في محاكاة الشمراني الخاصة للعبة "كول أوف ديوتي".

لا أدري، ولا أعتقد أني أصدّق، أن المحتوى العنيف وحده كان كفيلاً بأن ينتج لنا المجرمين والقتلة والإرهابيين.
ولكن ما بت متيقنة منه هو أن نشر عنفهم -بغض النظر عن ضحيته- على هذا النطاق الواسع يمنحهم نشوة شيطانية مختلة. سيقصفوننا بمقاطع حرقهم للكلاب حتى الموت، وخنقهم للأطفال، وتعنيفهم للنساء، واعتداءاتهم على قدسية الأجساد البشرية بالضرب والتعذيب والسحل، حتى نموت في داخلنا بالقدر الكافي لأن نتحلق حول أعمدة الإنارة، ونصوّر جثثها المصلوبة.
رفقاً ببصائركم قبل أبصاركم، ارفضوا تعاطي المحتوى العنيف.