أشواق حجي في مواجهة مغتصبها الداعشي (أرشيف)
أشواق حجي في مواجهة مغتصبها الداعشي (أرشيف)
الثلاثاء 17 ديسمبر 2019 / 19:42

العشب الداعشي والأراضي البور

على مدار سنوات طوال، فاضت عيونُنا بالدمع مع كل خبر كان يباغتنا في الصحف عن اغتصاب ضواري الدواعش للفتيات الإيزيديات، ثم بيعهن سبايا ورقيقاً أبيضَ لوحوش آخرين ليكملوا اغتصابهن وإذلالهن وهدر آدميتهن، وإراقة دماء عفافهن على مذبح الشهوات، والرذيلة والجوع الجنسي الرخيص.

الأفكار الشاذة المريضة إن دخلت رأسًا، سارت مسرى الدم وأصبحت جزءًا أصيلاً من تلك الرأس

على مدار السنوات السود التي ارتفع فيها نجم داعش المظلم، ظلت صور الأيزيديات تطارد أحلامنا وتصرخ في وجوهنا طلباً للغوث، فتشعرنا بالعجز والضعف وقلة الحيلة. لم يخطر ببالنا أن يوماً قريباً آت سنشهد بذات عيوننا التي فاض دمعها، تلك الضحايا المغتصبات، في مواجهة جسور مع جلاديها الذين اغتصبوهن قبل سنوات، لتدور الدوائر وتبدأ الضحية الكسيرة في محاكمة جلادها الجبار وهو ذليلٌ مطئطىء الرأس وقد نُزعت مخالبه، وانتزعت أنيابه، وصار جرذًا أهتم لا حيلةَ له، إلا دموع التماسيح الكذوب التي لم نصدقها، ولم تصدقها ضحاياه.

أشواق حجي، اسم إحدى تلك الضحايا الجميلات. الفتاة ذات التسعة عشر عاماً التي واجهت مغتصبها في معتقله. كانت باكيةً ثائرةً، وكان صامتاً خائفاً عيناه مصوبتان تجاه الأرض.

"هل تدري كم كان عمري حين كنت تغتصبني بالضرب والإذلال كل يوم؟ أجب. تكلم ولا تصمت".
 
ولكنها كانت تكلّم صنماً أخرساً مصدوعاً. بعدما كررت السؤال نفسه عدة مرات، أدرك السفاح المُكبل أن الفتاة لا تعبث وأنها قررت عقد محاكمة له، ستكون أشرس من المحاكمة القضائية التي تنتظره.

علمنا من المواجهة الغضوب أن الفتاة البائسة كان يجري اغتصابها اليومي وهي طفلة في الرابعة عشر من عمرها: "كنتُ في عمر ابنتك. 14 عاماً. فكيف لم تحترم جسدي؟ كيف لم تشفق علي وترحمني؟"
وكان يجيب بعبارات مقتضبة تفيد الندم والاعتذار. فأي اعتذار، وأي ندم نقبل من مجرم سفاح هاتك أعراض الطفلات؟

لم نصدق صمته وإطراقه في الأرض خجلاً من نفسه، لأن تلك الأفكار المسمومة تدخل رأس المتطرف ولا تبرحه إلا بتفجير تلك الرأس المريضة. فالأفكار الشاذة المريضة إن دخلت رأساً، سارت مسرى الدم وأصبحت جزءاً أصيلاً من تلك الرأس.

"الداعشية" فكرةٌ شيطانية لا تُعالج فقط بالاحترازات الأمنية، والاستخباراتية، والاستباقية، والاعتقال والمحاكمة، والعقاب. وليس فقط بالمداهمات الأمنية لأوكار الإرهابيين كما نفعل في سيناء، وينجح الجيش المصري كل يوم في وأد خلايا إرهابية، وعناصر داعشية كامنة تنتظر لحظة التمكين.

العلاج لابد أن يكون كذلك فكرياً وثقافياً ودينياً. العلاج يكمن في إنهاض المنظومة التعليمية والعمل الجاد على تنقية الرؤوس الصغيرة قبل أن تُلوث، وتحصينها بالعلم والأخلاق والقيم والمبادئ الرفيعة وصحيح الدين في صغرها، وفي جميع مراحل تطورها من الطفولة، فالصبا فاليفوعة فالشباب، حتى يستحيل تجنيدها حين تنضج.

وهذا ما تفعله الدول الناضجة بتنقية مناهج التعليم من جميع سمات العنف، والطائفية، والإقصائية، والتمييز، وهو ما بدأته مصر كذلك منذ العام الماضي على يد وزير التعليم الراهن.

العلاج يكمن في تطوير المنظومة الإعلامية بضخ برامج تثقيفية تنويرية تنهض بالعقل الجمعي للمجتمع، وتقوده نحو الترقي، والتحضر، ومحاربة الطائفية، والتمييز العقدي.

العلاج يكمن في عمل برامج توعوية شاملة للأسر حديثة التكوين، حتى يعرف الآباء والأمهات الجدد كيف ينشئون أطفالهم على مبادئ احترام الآخر والقيم الرفيعة التي تزرع الفضيلة في الروح، في سن مبكرة قبل الانتظام على مقاعد التعليم.

الداعشية لم تنته بمقتل أبو بكر البغدادي، مثلما لم تنته القاعدة بهلاك أسامة بن لادن، ولم تنته طالبان بوأد عناصرها، ولم تختفِ بوكو حرام بتصفية أفرادها.

الداعشية فكرة تخبو وتظهر وفق الشرط المجتمعي التي قد يكون حاضناً طيباً لها، وأرضاً خصبةً لنموها فتظهر، أو يكون لافظاً لها وأرضاً بوراً لا تسمح لها بالنمو والترعرع فتختفي وتموت قبل ميلادها.

المجتمع الذكي الواعي يجهد في أن يجعل أرضه بوراً وجدباً للعشب الداعشي الخبيث. الداعشية فيروس مسموم يسهل حقنه في الأدمغة حين لا تكون محصنة بمصل القيم والمبادئ والعلم.

العقول المحصنة لا يسهل اختراقها، والعكس صحيح. المجتمع المثقف الواعي، يجهد في أن يُطعم أبناءه بالمصل الواقي من فيروس الداعشية، والطائفية منذ طفولتهم.

تحية احترام لكل ضحية كريمة من الأيزيديات الفاضلات اللواتي تحملن ما لا يتحمله إنسان، وكُتب لهن أن يصمدن حتى يحاكمن الدواعش الجبناء على الهواء، وأمام نظر العالم وسمعه.