الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الإثنين 23 ديسمبر 2019 / 20:35

الديمقراطية كذبة نحب تصديقها

لا توجد ديمقراطية، وسيظل الصراع قائماً بين الإنسان وأعداء الانسان، وبين العقل والجنون، وبين الخير والشر

كثيراً ما حسدنا الغرب على ديمقراطيته التي رآها البعض نقيضاً لديكتاتوريات القمع في الشرق عموماً وفي العالم الثالث على وجه التحديد. وغالباً ما كنا نحسد إسرائيل، كامتداد للاستعمار الغربي، على ديمقراطيتها التي نجح الغرب في إقناعنا بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.

كان هذا ظننا الذي يتأكد الآن أن بعضه إن لم يكن كله إثم كبير، فلا ديمقراطية قائمة وحية ونموذجية في الغرب أو باقي جهات الدنيا، بل إن حكم الفرد الذي كنا نشكو منه في بلادنا صار واقعاً في دول تدعي أنها من أمهات الديمقراطية، وكذلك حال النخب الاجتماعية والاقتصادية التي تحتكر السياسة والقيادة في دول غربية ألفت إنتاج الزعماء المتعاقبين من طبقة واحدة، ومن عائلة واحدة أحياناً كما هو الحال في الولايات المتحدة بدءاً من آل كنيدي وصولاً إلى آل بوش، وربما يتواصل النسق مع آل ترامب أو من يصاهرهم. وفي بريطانيا تتولى المدارس والكليات النخبوية إنتاج الطبقة السياسية بتأهيل أبناء الطبقة الأكثر أرستقراطية.. ونفوذاً، لتولي المناصب الرسمية كسفراء ووزراء ورؤساء حكومات بعد أن يكونوا قد صعدوا إلى أعلى سلم العمل الحزبي في فترات قياسية. ونادراً ما يستطيع شخص عادي كسر هذا العرف بجهد مميز أو إنجاز كبير، لكن المؤسسة الرسمية لا تقبل التفكير خارج الصندوق فتسارع إلى إطفاء النجم الصاعد، وإعادته إلى الظل حيث ينبغي أن يعيش، وربما كان جيريمي كوربن من هؤلاء الذين نبذتهم المؤسسة. ولو لم تكن أنغيلا ميركل صاحبة تفرد يدرك عموم الألمان قيمته لما استطاعت البقاء في الحكم طيلة سنوات أعادت فيها ألمانيا إلى صدارة المشهد الدولي بجرأة سياسية متكئة على اقتصاد قوي غير قابل للكسر أو الانهيار.

صحيح أن حكام الغرب لا يدخلون قصور الحكم بدبابات الانقلابات، بل عبر صناديق الاقتراع وبأصوات الناخبين، لكنهم حين يستقرون على كراسي الحكم ينتهكون كل القيم والنظم من أجل البقاء في مواقعهم التي يعتقدون أن الله وهبها لهم وحدهم دون سائر الناس، لذا يتحول الرؤساء ورؤساء الحكومات إلى زعماء مسكونين بهواجس العظمة وأوهام العبقرية، ويبالغون في احتكار السلطة للفرد الواحد أو الحزب الواحد، وهم بذلك يشبهون زعماء عرفناهم في بلادنا حولوا جمهوريات كبيرة إلى معابد لتقديس الزعيم بعد أن تم اختصار الحزب الحاكم في شخصه، بل تم اختصار الدولة والمجتمع في شخص القائد الواحد الذي لا يشبهه أحد.

صحيح أيضاً أن الدكتاتور الغربي لا يحكم بطريقة كيم جونغ إيل ولا يلقي بخصومه في أقفاص الأسود الجائعة، لكن النتيجة في النهاية واحدة، لأن مقدرات البلاد والعباد تظل مسخرة لخدمة الزعيم، وكذلك حاضر الناس ومستقبلهم ومصائر أجيالهم القادمة تظل خاضعة لمزاج الزعيم وهواه الشخصي وانحيازاته الذاتية.

هذا ما تنتجه الفرق المسيحية المتطرفة في الغرب، وهو أيضا ما تنتجه الجماعات الإسلامية المتطرفة في الشرق، ولعل النموذج التركي المختصر في شخص رجب أردوغان يقدم مثالاً حياً للدكتاتور المسكون بهاجس العظمة، والذي يغامر بحاضر تركيا ومستقبلها حين يتشبث بعضويته في الناتو ويقدم نفسه كزعيم للعالم الإسلامي، وحين يتحدى أمريكا بالخطابة الشعاراتية ويستضيف أكبر قواعدها في المنطقة، وحين يتحالف مع الأمريكيين في سوريا ويحاول، في نفس الوقت، التقرب من الروس ممتطياً ذات الملف المشتعل.

وصل أردوغان إلى حكم تركيا عبر صندوق الاقتراع، وقد نجح في امتطاء العملية الديمقراطية حتى يتمكن من ضربها وتخريبها والزج بعشر شعبه في السجون والدفع بالكثيرين منهم إلى المنافي، وهو بذلك يقدم دليلاً حياً على رداءة مخرجات الديمقراطية حين تكون مجرد وسيلة.

لا توجد ديمقراطية لا في الغرب الأبيض الاستعماري الكاره للآخر، ولا في الشرق الأصفر الذي يميز بين مكوناته الاجتماعية على أساس الدين، ولا في جمهوريات الموز المحكومة بمن يزقون صدورهم بنياشين غير مستحقة.

لا توجد ديمقراطية، وسيظل الصراع قائماً بين الإنسان وأعداء الانسان، وبين العقل والجنون، وبين الخير والشر.. وفي النهاية، ولأن التاريخ له حتميات مؤكدة، لا بد أن ينكسر النموذج ويسقط الدكتاتور.
ولعل أصدق تعريف للديمقراطية هو الذي يقول إنها كذبة نحب تصديقها.