عناصر ميليشيات عراقية موالية لإيرامن تحاول اقتحم سور السفارة الأمريكية في بغداد.(أف ب)
عناصر ميليشيات عراقية موالية لإيرامن تحاول اقتحم سور السفارة الأمريكية في بغداد.(أف ب)
الخميس 2 يناير 2020 / 19:15

بريد بغداد

لم يعد ممكناً تهميش وتغطية مطالب الناس بالخوف والابتزاز والشعارات

فتحت بوابات ومداخل "المنطقة الخضراء" أمام منتسبي ميليشيات "الحشد الشعبي" للتضامن مع حزب الله إثر قصف الطائرات الأمريكية لخمسة مواقع له في العراق وعلى الحدود السورية، الأيدي التي أغلقت نفس البوابات أمام العراقيين لسنوات طويلة، الأيدي التي أطلقت النار دون رأفة على كل من حاول من العراقيين خلال أكثر من عقد أن يحتج على أفكار "بريمر"، الأب الروحي للحالة الطائفية العراقية، وقوانينه التي تراوحت بين "اجتثاث البعث" و"تفكيك الجيش العراقي"، هي نفسها الأيدي التي فتحت المزاليج وأشارت من الداخل إلى حملة رايات الميليشيات ومريدي "سليماني" نحو الممرات المؤدية الى المربع الأكثر حصانة في العراق.

لم يطلق القناصة الرصاص على الداخلين، ولم توقفهم الحواجز، ولم يجرح أحد أو يعتقل أو يسحل إلى شاحنات الأمن، كل شيء جرى بهدوء وإتقان حتى وصول "المحتجين" إلى أسوار السفارة، كانت الطرق سالكة والبوابات مشرعة والطريق إلى السفارة الأمريكية ممهداً، هناك جرت، أمام الكاميرات، استعادة الطقوس المتبعة في مثل هذه الأنشطة، الهتاف بموت أمريكا وإسرائيل وحرق الأعلام وإطلاق التهديدات وأشياء من هذا القبيل.

بعد مغادرة قادة الميليشيات وبعد أن تحدثوا لوسائل الإعلام وأطلقوا تهديداتهم، سيطلق حرس السفارة قنابل دخانية، قنابل لا تشبه تلك المقذوفات القاتلة التي يطلقها الأمن العراقي على المتظاهرين في ساحة التحرير وسواها في محافظات الجنوب، وستحلق طائرتا "أباتشي" في سماء العاصمة فوق المحتجين في محيط السفارة في استعراض قوة، وسيطلق "ترامب" تغريدات تحذير للحكومة العراقية وتهديد لإيران ومدائح للجنود الأمريكين الذين صدوا المحتجين، وسيرسل البنتاغون المزيد من المارينز لمبنى السفارة وللمنطقة، فيما سيحضر وزير الداخلية العراقي بنفسه ليشرف، كأي شرطي سير صالح، على انسحاب المتبقين من الحشد وتوجيههم للاعتصام خارج المنطقة، حيث سيقتصر احتجاجهم على المطالبة بمناقشة قانون خروج القوات الأجنبية في البرلمان.

غير بعيد عن هذا العرض المدروس يواصل العراقيون في ساحة التحرير انتفاضتهم ضد فساد السلطة ووهن النخب السياسية أمام الهيمنة الايرانية ونفوذ ميليشياتها، وسطوة "سليماني"، في إشارة قوية إلى عدم نجاح عملية خطف الانتفاضة وسرقة خبرتها وتجيير أهدافها عبر ربط السيادة العراقية بالهيمنة الإيرانية، إشارة واضحة إلى أنه لم يعد ممكناً تهميش وتغطية مطالب الناس بالخوف والابتزاز والشعارات.

لعل هذا هو الخبر الأهم الذي حمله بريد بغداد في الربع ساعة الأخير من 2019.

عملية جر المواجهة بين ايران والولايات المتحدة للساحة العراقية ما زالت قائمة وقد تذهب أبعد من المناوشة وأبعد من قصف مواقع "حزب الله" العراقي في سوريا والعراق، سواء عبر الطائرات الاسرائيلية أو الأمريكية يكاد الأمر يكون نوعاً من المفاوضات، هذه فكرة سليماني نفسه ومهمته الرئيسية، القائمة على استخدام العراق وسوريا واليمن ولبنان كحقول مواجهة وخندق عريض يفصل البر الإيراني عن الاشتباك، ويحول هذه البلاد، عبر الأذرع الكثيرة من الميليشيات الطائفية التي جرت تغذيتها وتسمينها في عقد الفوضى الأخير، إلى مناطق نفوذ و"مجال حيوي" مسلح يشكل درعاً لحماية نظام الولي الفقيه في طهران، وورقة للمساومة بدماء شعوب المنطقة.

في مستوى آخر كان هذا الاختبار الأهم، حتى الآن، لوعي الانتفاضة الشعبية في العراق، وقدرتها على الصمود وراء مطالبها الحقيقية وأهدافها وأولوياتها، دون الانجرار لبلاغة "السيادة الوطنية" المستهلكة، ورطانة "المقاومة" وبقية هذه الأقنعة التي يتخفى وراءها عمل دؤوب على تبديد السيادة وتعويم فكرة الدولة والاستقلال.