قائد فيلق القدس ونائب قائد الشد الشعبي أبو مهدي المهندس اللذان قتلا في غارة أمريكية.(أرشيف)
قائد فيلق القدس ونائب قائد الشد الشعبي أبو مهدي المهندس اللذان قتلا في غارة أمريكية.(أرشيف)
الأحد 5 يناير 2020 / 20:21

تحوّلات كشفتها الأيام الأخيرة

لم يعد كافياً أن تضع قوّة نظامية، أو غير نظامية، قناع المقاومة، وأن تستثمر في العداء لإسرائيل كمصدر للشرعية، لإقناع قطاعات واسعة من الناس بصدقية مواقفها

 يثير مقتل قاسم سليماني على يد الأمريكيين، في بغداد، تساؤلات وأسئلة كثيرة حول احتمال التصعيد لا في العراق وحسب، بل وفي الشرق الأوسط بشكل عام. وباستثناء ميل أغلب المراقبين والمحللين للقول إن عوامل التصعيد تبدو، بعد الحادثة مباشرة، أقوى من عوامل التهدئة، فإن أحداً لا يستطيع المجازفة بتقديم إجابات قطعية بشأن التداعيات المُحتملة.

وهذا، على أهميته، ليس موضوعنا في هذه المعالجة. ففي سياق عاصفة من ردود الفعل المتضاربة، والمشاعر الملتهبة، التي اجتاحت وسائل الإعلام، ومنصّات التواصل الاجتماعي، على مدار اليومين الماضيين، للتعبير عن الغضب أو التشفي، من جانب مواطنين عاديين، وعاملين في الحقل الثقافي، ثمة ما يسترعي الاهتمام، ويستحق وقفة تأمل.

والمقصود أن عين الرائي يمكنها رصد ما يشبه انزياحاً في طريقة ترميز التحيّزات السياسية والأيديولوجية في أوساط التيار العام، أي الغالبية العظمى من الناس، التي تتأثر بما يدور حولها، ولكنها لا تتبنى، بالضرورة، أيديولوجيات ومواقف سياسية مُسبقة تمكنها من صياغة ردود أفعال جاهزة.

من المبالغة، بالتأكيد، القول إن هذا الانزياح بدأ مع مقتل سليماني، فتحوّلات كهذه لا تحدث بين ليلة وضحاها، بل تنجم عن تراكمات بطيئة، وتطفو على السطح، بعد امتلاك تيارات جوفية عميقة ما يكفي من الزخم وقوّة الدفع. ويعنينا، في البداية، تشخيص ما أسميناه بالانزياح قبل التفكير في العوامل التي أنجبته.

وهذا ما يمكن اختزاله في القول إن معادلات تقليدية من نوع: "عدو عدوي صديقي" لم تعد ذات مركزية ونفوذ إلى حد يمكّنها من التأثير على ردة فعل الناس إزاء هذه الحادثة أو تلك. ففي وقت مضى كان مجرّد الصدام السياسي والدبلوماسي، بهذا القدر أو ذاك، مع إسرائيل، من جانب قوّة إقليمية أو دولية، بصرف النظر عن الدوافع، كافياً لتصنيفها في معسكر الأصدقاء، وتمكينها من استثمار ومراكمة رأسمالها الرمزي والمادي في العالم العربي.

وفي وقت مضى، أيضاً، كان العداء لإسرائيل مصدراً رئيساً من مصادر شرعية العديد من الأنظمة في العالم العربي. ويصعب في الواقع القول إن هذا النوع من العداء كان في بداية الصراع العربي ـ الإسرائيلي مُفتعلاً، ولكن الفشل في تحقيق نتائج ملموسة في هذا الصدد، وتآكل مصادر إضافية للشرعية، مع فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية، أفرع العداء لإسرائيل من دوافعه الأصلية ليجعل منه قناعاً للشمولية، واحتكار السلطة، وتصفية المعارضين. وهذا يصدق، أيضاً، وإن كان بدرجة أقل، على العداء للولايات المتحدة، وتبني شعارات معادية للغرب بشكل عام.

وكانت هذه، في الواقع، الثغرة التي نفذت منها أحزاب وحركات وأيديولوجيات المقاومة الشعبية، خاصة بعد هزيمة حزيران، بوصفها البديل الأكثر صدقية وتمثيلاً لمبدأ العداء لإسرائيل. وهذه الحقيقة لم تغب عن أعين أنظمة كثيرة لم تجد، في معرض تجديد "شبابها الثوري"، مفراً من التحالف مع مقاومات صاعدة بما يكفي لتكريس وتعزيز المصدر التقليدي للشرعية بحيوية جديدة.

وكان من نتيجة هذا كله احتدام الصراع بين أنظمة مختلفة على احتكار القوى الجديدة الصاعدة، وإنشاء مقاوماتها الخاصة كما فعل نظام البعث العراقي الذي أنشأ جبهة التحرير العربية، ونظام البعث السوري الذي أنشأ منظمة الصاعقة، ناهيك عن الصراع على منظمة التحرير إلى حد كاد يؤدي إلى تمزيقها.
وعلى الأرجح، نجم عمّا تقدّم ما يكفي من الدروس والخبرات التي استُثمرت في إنشاء ورعاية وتكريس ظاهرة حزب الله كميليشيا مسلّحة، في لبنان، بعد العام 1982 من جانب حكّام طهران ودمشق. وقد تجلت في هذا المشروع، للمرّة الأولى، طموحات ورهانات المزاوجة بين معادلة "عدو عدوي صديقي"، التي تستفيد منها القوّة الإيرانية الطامحة في دور إقليمي، والعداء لإسرائيل الذي يستفيد منه نظام عربي "يجدد شبابه" الثوري، ومصادر شرعيته.

على أي حال، ما بدا في حينها ترجمة لطموحات ورهانات في نطاق ضيّق، واقتصر على لبنان، سرعان ما تحوّل إلى مقدّمة للتوسّع في العالم العربي. وفي هذا ما يفسّر تعددية الميليشيات المسلحة، في الوقت الحاضر، ودخول الشرق الأوسط مرحلة الميليشيات الجوّالة (فتركيا ترسل مقاتلين سوريين من ميليشيات متحالفة معها إلى ليبيا، مثلاً).

وهذا ما تجلى بداية في تدخل حزب الله المسلّح في سورية، إلى جانب ميلشيات طائفية عراقية ومن جنسيات أُخرى، لقمع ثورة السوريين على النظام الحاكم في دمشق. ثمة مصادر مختلفة لظاهرة الميليشيات الجوّالة تبلورت في رحلة "الجهاد الأفغاني" وفي مجابهة الميليشيات بميليشيات مضادة. ولكن هذا خارج نطاق هذه المعالجة.

والخلاصة: سوء توظيف معادلة "عدو عدوي صديقي" لتحقيق طموحات من جانب قوّة إقليمية هي إيران، ونفاد الكثير من الرصيد السياسي والأخلاقي والرمزي لفكرة المقاومة نتيجة تضافر دور الميليشيات الجوّالة، مع دور النظام الحاكم في دمشق، في قمع انتفاضة السوريين، يفسّر ما وصفناه بالانزياح.

فلم يعد كافياً أن تضع قوّة نظامية، أو غير نظامية، قناع المقاومة، وأن تستثمر في العداء لإسرائيل كمصدر للشرعية، لإقناع قطاعات واسعة من الناس بصدقية مواقفها. وهذا ما تجلى في ما لا يحصى من التعليقات في اليومين الماضيين. فثمة القليل من التعاطف مع إيران، والميليشيات والقوى المتحالفة معها، في أوساط الناس العاديين. ولعل في هذا ما يبرر الكلام عن "الانزياح"، وعن حقيقة أن محور "المقاومة والممانعة" الذي تقنّع بقناع المقاومة الحق بالغ الضرر بفكرة المقاومة نفسها.