لبنانيون يتظاهرون في بيروت.(أرشيف)
لبنانيون يتظاهرون في بيروت.(أرشيف)
الإثنين 6 يناير 2020 / 19:30

أيديولوجيا الحراك

الحراك اللبناني يبدو كما قلنا وكأنه يحاول خطوة خارج المجتمع الأهلي وخارج العلاقات الطوائفية وخارج العنف المسلح الأهلي في الأصل

الحراك المدني اللبناني الذي قام في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 قد يكون الفريد من نوعه في تاريخ بلد كان يتبع كل عقد من السنين بحراك مسلح غالباً. أما الآن فيبدو خارج النزاع المسلح بل خارج السلاح تماماً في بلد تتوزع فيه الجيوش الطائفية التي يبدو أن أحدها حزب الله هو الأقوى بين الجيوش كلها بما في ذلك الجيش الحكومي. الحراك الذي عصف منذ شهرين لا يملك هذه الميزة، بل يبدو في تعريفه خارجها بالكامل. لا يعتد بالسلاح بل يُعلن في مقابله سلميته ويعتدّ بهذه السلمية التي يزداد اصراراً عليها كل ما اقتربت المواجهات من السلاح، وهي تقترب لتبتعد في لحظة تالية، فالسلمية في مجتمع مسلح تتحول الى مثال، وفي بلد تتتابع فيه الحروب الأهلية كل عقد من السنين تقريباً، يبدو العنف حداً متجاوزاً بل ومنكوراً، رغم أن أدواته لا تزال قائمة ولا يزال يدخل في الشعار الوطني الذي المقاومة ركن فيه.

الانتقال الى السلمية والوقوف عندها، هل هو امتياز القطاع السلمي من المجتمع، القطاع الذي لا يزال عهده بالحرب الأهلية قريباً، ولا يزال امتحان السلاح بارزاً فيه، ولا تزال الجيوش الطائفية في معظمها غالبة عليه، ولا يزال العنف المسلح ركناً في ايديولوجيته، فالمقاومة ليست فقط ركناً ثابتاً في الايديولوجيا الوطنية، لكنها أساس مجتمع كامل، بل هي مجتمع قائم بأسسه وغاياته، فالعنف المسلح ركن في التربية والثقافة الشعبيتين والسلاح المباح أساس وقاعدة. لذا يمكن عندئذ أن نفهم أن السلمية والإصرار عليها والتمسك بها موقف مضاد، لا لأن مباراة السلاح ليست متاحة ولا مساواة فيها، بل لأن الاحتفال بالسلاح والبناء عليه والعودة إليه لم يعد كما كان من قبل جماهيرياً وشعبياً. لقد تخلّق وسط المجتمع قطاع سلمي لا يؤسس على العنف المسلح ولا يعود إليه ولا ينصبه مثالاً، رغم أن أجزاء كثيرة من الحراك لا تزال تحل "المقاومة" في قلب إيديولوجيتها، إلا أن سلميتها المعلنة ومثالها السلمي ليسا بدون موقف، بل إن هذه السلمية في مجتمع "مقاوم" تبدو خروجاً وتبدو موقفاً مضاداً وتبدو مهما فهمنا منها اعتراضاً من بعيد أو قريب على السلاح وعلى العنف المسلح. هكذا يتبلور من بعيد موقف سلمي معاد للصراع الأهلي بل ولأهلية الصراع وللسلاح الطوائفي مهما يكن، وأياً كانت غايته، فالسلمية هنا مثال وغاية وتصور لعلاقات المجتمع. لذا لا نستغرب أن يكون القطاع السلمي هذا بعيداً عن الطوائفية، رغم أن الطوائفية المتجذّرة في المجتمع ليست مما يسهل البعد عنه، فهي تلابس كل موقف وتدخل في كل كيان، وتبدو كأن لها جذورها البعيدة في كل تشكيل اجتماعي، الا أن الحراك الذي يبدو لأول وهلة احتجاجاً على المجتمع وعلى بنيته ونظامه، يتعدى الطائفية، أو على الأقل يقف عندها، ويستردها على مهل في مواقفه العديدة والمتنوعة. إن ثمة مقابل القطاع السلمي قطاعاً آخر لا طوائفياً. هذا القطاع الذي لا يستطيع تماماً أن يبرأ من الطائفية ولا أن يتخلص منها، يبدو خطوة خارج الحرب الأهلية والايديولوجيات الأهلية، بل يبدو الشكل الجنيني لمجتمع ما بعد الحرب والبذرة الأساس لمجتمع متعايش.

لا نستطيع القول إن الحراك بريء من الطائفية، فالطائفية شيء يمكن استرداده في أي لحظة كما يمكن العودة إليه في شتى المنعطفات. لكن الحراك اللبناني يبدو كما قلنا وكأنه يحاول خطوة خارج المجتمع الأهلي وخارج العلاقات الطوائفية وخارج العنف المسلح الأهلي في الأصل. إنها خطوة مهما يكن حجمها ومهما تكن قواعدها، فقد بدأت وبدأت تتخذ كياناً وتوجد قوى لها على الأرض وقطاعاً خاصاً بها. إن السلمية واللاطوائفية هما الان قطاعان ناشئان. لقد حدث ولو بدرجة ضئيلة انقلاب على المجتمع وداخل المجتمع حدث تعدية للمجتمع وبناء على نقده، هل نحلم بلبنان آخر!