نعبيرية.(أرشيف)
نعبيرية.(أرشيف)
السبت 11 يناير 2020 / 20:34

إزعاج

الضوضاء، أو التلوث السمعي، هو -بحسب منظمة الصحة العالمية- ثاني أكبر مسبب بيئي للمشاكل الصحية، حيث لا يتفوق عليه في ذلك سوى تلوث الهواء

لم تكن لتجد مواطناً أو مقيماً أسعد مني بقرار شرطة أبوظبي الأخير بمخالفة من يشغّلون الموسيقى الصاخبة في سياراتهم. وأعترف بأن "شماتتي" جاءت في المقام الأول لمعاداتي لذائقتهم الفنية المتوجهة نحو الشيلات بأمراضها القبلية، أو نحو الأغاني العراقية الهابطة.

وبالطبع، القرار جاء مع حزمة من المخالفات الأخرى:
لمن يقومون بـ "تزويد" سياراتهم بهدف تضخيم أصوات محركاتها، ومن يمارسون التفحيط بالإطارات مخلفين لوحات من الفن السريالي على الإسفلت، وحتى من يبالغون في استخدام أبواق سياراتهم، ويطلقون منها جملاً وفقرات كاملة.

وأتفهّم مبدئياً تركيز شرطة أبوظبي على الجانب الاجتماعي لهذه الظواهر الضارة، حيث تطرقت إلى أن إصدار الضجيج بهدف لفت الانتباه والتباهي أمام المارة هو مظهر غير حضاري، وعدّته مسيئاً لصورة المجتمع. بل وربما كان عليها الإشارة أيضاً إلى مخاطر كونه قد أصبح تعبيراً دارجاً عن الرجولة والفتوة بين فئات الشباب.
ولكني أجد في كل هذا الطرح تسطيحاً فظيعاً للأزمة، التي لا تقتصر أبداً على بضعة "مذارج" –كما نسمي المراهقين باللهجة العامية- مزعجين، ورغبتنا في تأديبهم.

إن الضوضاء، أو التلوث السمعي، هو -بحسب منظمة الصحة العالمية- ثاني أكبر مسبب بيئي للمشاكل الصحية، حيث لا يتفوق عليه في ذلك سوى تلوث الهواء. بشكل عام، يُقدّر عدد الأوروبيين وحدهم الذين ينتهي بهم المطاف على أسرّة المستشفيات بسبب الضوضاء بـ72 ألف شخص سنوياً، بينما يلقى حوالي 16 ألفاً حتفهم قبل أوانهم بعوارض مختلفة تعود إلى الضجيج.

لنضع جانباً الرابط الجلي بين ارتفاع مستويات الضوضاء وبين الإصابة بطنين الأذن، أو ضعف حاسة السمع، أو حتى زوالها.

لقد وجد الباحثون روابط بين الضوضاء المستمرة في المدن، والتي تشغل معظم ساعات اليوم، وبين معاناة السكّان من آفات القلق، اضطرابات النوم المزمنة، وأمراض القلب والأوعية الدموية. وبحوث أخرى أوجدت روابط بين أصوات الضجيج الصادر عن حركة المرور وبين زيادة خطر الإصابة بالسكري والسمنة.
والأمر يسبق قدومنا إلى الحياة.
فحتى في ظلمات الرحم، حيث تكون الأصوات مكتومة أصلاً، لا يسلم الجنين المعاصر من الضوضاء، فالتلوث السمعي يتسبب في الإجهاد العصبي لجسد الأم، مما يؤثر بدوره على نمو الجنين.

أما بعد ميلاد الطفل، فلا تعتقدوا أن أسوأ ما قد يحدث له هو الاستيقاظ مذعوراً عند منتصف الليل بسبب مغامرات مفحط تافه.

بل أثبتت الدراسات ارتفاع معدل الكورتيزول في لعاب الأطفال بعد وضعهم في بيئة صاخبة، وهي المادة التي بزيادتها تنخفض مناعة الجسد، مما يجعل الالتهابات أصعب في السيطرة عليها.

أمام جميع هذه "المهالك" الحقيقية، فمن المجدي والواقعي أكثر -لا سيما بالنسبة إلى مدننا الكبيرة- أن نتعمّق في تعاطينا مع الضوضاء، عوضاً عن الاكتفاء بتصويرها على أنها تحد بين صرامة القوانين من جهة، وبين الشباب بعنفوانه المفرط للحياة من جهة أخرى.