رجل الدين الشيعي ياسر الحبيب.(أرشيف)
رجل الدين الشيعي ياسر الحبيب.(أرشيف)
الإثنين 13 يناير 2020 / 19:31

الطائفية المضادة ظلامية أيضاً

أمام هذا الواقع يسقط الرهان على جدوى تجديد الخطاب الديني، لأن المكلفين بالتجديد هم أنفسهم من أوصلونا إلى هذا الحال

استمعت قبل أيام إلى كلام غريب ومقزز تلفظ به المدعو ياسر الحبيب، وهو أحد غلاة الطائفيين، وتطاول فيه على إثنين من الخلفاء الراشدين، وهما أبو بكر وعمر، وأم المؤمنين عائشة، ودعا فيه إلى "القضاء عليهما" وكأنه ينكر وفاتهما قبل ألف وأربعمائة سنة!

كان واضحاً أن هذا الطائفي يدعو إلى إعلان الحرب على جزء كبير من المسلمين، وهم السنة الذين يسيرون على نهج الرسول وصحابته، منطلقاً من فهم خاطئ حد الجنون للتشيع، وتطرف مبالغ في العصبية الطائفية التي لا تستقيم مع سياق تطور المجتمع البشري في الألفية الثالثة.

يرى ياسر الحبيب ومعه الكثيرون من الطائفيين الإثني عشريين أن الشيعة فقط هم المسلمون، وما عداهم في هذه الأرض مجرد كفرة ومرتدين يستحقون الشتم والتطاول عليهم وعلى سيرهم بأقذع الألفاظ وأقبحها، وهو بذلك يفرغ جزءاً من احتقانه وكبته ويستسلم لحالة الهوس التي تسيطر عليه منذ اعتلائه منبر "الدعوة" في أحد مساجد الكويت، قبل أن يتم طرده وتجريده من جنسية البلاد التي تعيش حالة مميزة من الانسجام المجتمعي بين السنة والشيعة من أهلها العرب.

بطبيعة الحال، لا يمكن لعاقل أن يقبل هذا الخطاب الطائفي المحتقن والمهدد للسلم الأهلي سواء في الكويت أو في غيرها من بلاد العرب والمسلمين، لكن ما نراه ونسمعه ونقرأه في زماننا العربي الصعب يؤكد أن المجانين تكاثروا بتسارع غريب، وأن بعضنا يختصر الوطن في الطائفة ويعلي شأنها حتى على الدين نفسه.

هناك مريدون لياسر الحبيب، يعيشون مثله في بريطانيا أو يتوزعون على المهاجر الأوروبية أو يختبئون في الزوايا والحسينيات في البلاد العربية. وهناك في المقابل مجانين آخرون يرفعون شعاراً طائفياً مضاداً، ويتخندقون في بعض جوامعنا وفي الكثير من بيوتنا المستباحة للفكر الظلامي، ويتبنون خطاباً طائفياً أصولياً لا يقل في قبح محتواه عن خطاب ياسر الحبيب، ويذهبون إلى التماهي مع الأصولية الداعشية التي ترى الشيعة كفاراً ومرتدين.

وينخرط الفريقان في حروب "دعوية" إلكترونية، تجعل صورتنا أمام العالم وأمام أنفسنا قبيحة ومرسومة بالضلال. بينما يتراجع الوعاة، وتضيق عليهم المنابر التي تستسيغ الجنون، فينكفئ الخطاب العقلاني لتظل الساحة مفتوحة لحروب داحس والغبراء التي تبدأ على صفحات فيسبوك وتويتر قبل أن تنتقل إلى الساحات العامة والأحياء المظلمة والفقيرة في مدننا التي تئن تحت وطأة التجييش والاقتتال الطائفي الذي تغذيه دول وقوى عالمية وإقليمية مستفيدة من الفوضى في بلادنا ومن تخلفنا الاجتماعي الذي يراه العالم كله في المواجهات والمعارك الطائفية الغبية.

أمام هذا الواقع يسقط الرهان على جدوى تجديد الخطاب الديني، لأن المكلفين بالتجديد هم أنفسهم من أوصلونا إلى هذا الحال، وهم الذين قسمونا بين سني وشيعي، وهم الذين يعملون على إعادتنا إلى الوراء بسلفية تعبر عن نفسها بكل وضوح في خطاب المعسكرين المتناحرين.
كنا نقول، وها هو الواقع يثبت صحة ما قلنا، إن مواجهة الطائفية ينبغي أن تتأسس على خطاب مضاد للطائفية، وليس خطاباً مضاداً للطائفة، أو طائفية مضادة.

وكنا نقول إن الفصل بين الدين والسياسة هو الشرط الأول والأهم للتطور والخلاص من عقلية داحس والغبراء، ولعل ما يجري من إصرار على تسييس الدين ثم تسييس الطوائف مع تراجع مستوى الحياة، وتراجع مستوى التعليم، وتغول الفقر والفساد، وهيمنة السواد الطائفي على العقل والروح، يؤكد أن لا بديل عن هذا الفصل الضروري في زمن لم يعد يقبل أو يحتمل المناورة وأنصاف الحلول.

حان الوقت للاعتراف بهذا الواقع الموجع، وربما حان الوقت أيضاً للبدء في التغيير الحقيقي الذي يتطلب قدراً كبيراً من الوعي والشجاعة في مواجهة الموروث السلفي والأحقاد الطائفية.