شعار قناة الجزيرة القطرية (أرشيف)
شعار قناة الجزيرة القطرية (أرشيف)
الأحد 19 يناير 2020 / 20:31

"الحياء" المهني والأخلاقي ليس جزءاً من شروط اللعبة..!

من المؤكد أن أحداً في "الجزيرة" لن يتذكّر من باب "الحياء" المهني، على الأقل، ضرورة فتح باب النقاش في موضوع تعديل قانون العقوبات، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا، وما يستدعي من، "رأي ورأي آخر"

توقفت عن مشاهدة "الجزيرة" القطرية منذ عشر سنوات. لذا، لا أعرف كيف يتكلّمون عمّا يجري في العالم العربي، هذه الأيام. ومع ذلك، يمكن القول بقليل من المجازفة إنهم ما زالوا يدافعون، بحماسة بالغة، عن حق الناس في "الرأي والرأي الآخر"، دون ملاحظة أنهم يستثنون الناس في قطر نفسها من حق كهذا. فلا يحق لأحد، هناك، التعبير عن "رأي آخر".

وآخر تجليات حرمان الناس من الحق في "رأي آخر" ما جاء في وسائل الإعلام، في الأيام القليلة الماضية، عن تعديل قانون العقوبات، في قطر، بما يكفي لتجريم كل شخص استحسن أو عبّر عن "رأي" يمكن تصنيفه في خانة "الكاذب، والمُغرض، والدعائي المثير".

وهذه مفردات فضفاضة، بلا معنى تقريباً، يمكن تأويلها بطريق مختلفة. وبما أن النظام يحتكر لنفسه، عبر أجهزته الرقابية، والقضائية، الحق في تأويل ما شاء، وبما شاء، ووقتما شاء، يصبح السكوت من ذهب فعلاً، ويصبح كل "رأي آخر"، لا يُعجب النظام، كاذباً ومغرضاً ودعائياً ومُثيراً في آن.

وإذا قلنا "كما تدين تُدان"، فمن نافلة القول التذكير بأن في الكيل بمكيال كهذا من جانب آخرين تسعى "الجزيرة"، وراء قناع "الرأي والرأي الآخر" لتقويض بلادهم بما يمكن تصنيفه في خانة "الكاذب" و"المُغرض" و"الدعائي المثير" ما يكفي، أيضاً، لتمكينهم من تجريم "الجزيرة" ومُستهلكي ومُروّجي "رأيها الآخر". ناهيك، طبعاً، عن حقيقة أن في مجرّد احتكار الحق في التأويل، من جانب هذا النظام أو ذاك، ما يعني استحالة التعبير عن "رأي آخر" دون الانشقاق.

مفارقات كهذه لا تثير حساسية خاصة لدى مُموّلي "الجزيرة"، ومُنتجي "بضاعتها"، والعاملين فيها، فالفِصام شرط من شروط العقد الضمني بين هؤلاء. وفي هذا السياق، لا أجد تمثيلاً مناسباً يختزل معنى ودلالة الفِصام أفضل من رواية الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، المنشورة في أواخر القرن التاسع عشر بعنوان "الدكتور جايكل والسيّد هايد". فالمذكوران شخصان في جسد واحد، ولكن لكليهما حقيقة مختلفة ومتناقضة. الأوّل وجه مُحتمل للخير، أما الثاني فيجسّد الشر، وكلاهما يستفيد مما تراكم من خبرات "مهنية" لدى الآخر.

ومع ذلك، تبدو محاولة ستيفنسون في تحليل الفصام من خلال علاقة مُتخيّلة بين الخير والشر، في جسد شخص واحد، مجرّد تمرين بأدوات الأدب، ولغته، في عالم الخيال. أما الواقع فيبدو أكثر تعقيداً، وإثارة للذعر، وأقل براءة، في عالم اليوم، الذي يُطلق عليه البعض "عالم ما بعد الحقيقة".

ومن المؤكد أن الثورة التقنية الهائلة في وسائل الاتصال، وطريقة انتاج وتسويق الأخبار والصور والمعلومات، قد أسهمت في خلق كل ما نرى حولنا من فوضى القيم والدلالات. وفي هذا الصدد كان التلفزيون الأكثر نفوذاً وتأثيراً في "التلاعب بالعقول"، كما جاء في التحليل البارع لعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو. وقد تضاعف التأثير الاجتماعي والسياسي والثقافي للتلفزيون مع نشوء ظاهرة الفضائيات.

وعلى خلفية كهذه، بالذات، يمكن العثور على الدلالة الأخطر لحالة الفصام في منع ومطاردة وتجريم "الرأي الآخر"، بقوّة القانون، في قطر من ناحية، ولوم الآخرين لأنهم لا يعترفون "بالرأي الآخر"، ويطاردونه، ويجرّمونه، في بلادهم، من ناحية ثانية.

والمشكلة، هنا، ليست في القول إن ذريعة الدفاع عن حق الناس في التعبير عن "الرأي والرأي الآخر"، مجرّد قناع ولعبة مكشوفة لتحقيق أغراض سياسية أسهمت في إشعال أكثر من حرب أهلية، وزعزعت الاستقرار في أكثر من مكان، في العالم العربي. فهذا كله مفهوم ومعلوم، ولا ضرورة للتدليل، في هذا المقام، عليه.

المشكلة الحقيقية تتمثل في محاولة تطبيع الفِصام نفسه إلى حد لا يستدعي حتى مجرّد التجاهل أو غض النظر. فمن المؤكد أن أحداً في "الجزيرة" لن يتذكّر من باب "الحياء" المهني، على الأقل، ضرورة فتح باب النقاش في موضوع تعديل قانون العقوبات، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا، وما يستدعي من، "رأي ورأي آخر".

وقد سبق للقناة وأصحابها أن نكّلوا ببلدان عربية مختلفة في سياق نقاش تعديلات مشابهة، أو ممارسات قضائية، في تلك البلدان. فالمهم في حالة الفصام الأخلاقي، والمهني، أن "الحياء" ليس جزءاً من مكوّنات وشروط اللعبة.