من الانتفاضة اللبنانية.(أرشيف)
من الانتفاضة اللبنانية.(أرشيف)
الإثنين 20 يناير 2020 / 21:01

النموذج اللبناني

السياسة مرذولة مرفوضة من الحراك أياً كان السياسي ومهما كان. الساسة لصوص نهابون ولا يتعدّون ذلك وهم جميعهم من الطراز نفسه «كلهن يعني كلهن»

تمر ثلاثة أشهر على الانتفاضة اللبنانية، ورغم هذا الوقت فإننا لا نستجلي تماماً معالمها ولا نستطيع أن نقوّم نتائجها ولا أن نتميّز هيكلها وعلاقات قواها وأطرافها.

فمن هذه الناحية فإن الانتفاضة التي بدأت بالإنكار لكل شيء وبخاصة السياسة والدولة. الانتفاضة هذه لا تزال في إنكاريتها ورفضها لكل حكم وتقويم، لكنها مع ذلك تتقلّب من نواح إلى نواح أخرى وتزاوج بين ميول واتجاهات متضاربة، وتستمر في إنكاريتها بل تزيد فيها لكنها رغم ذلك تذهب في اتجاهات ترجع منها اشدّ إنكاراً وأكثر زهداً، فالانتفاضة التي رغم شهرين على قيامها لم تقدّم إلى الآن وجهاً بارزاً ولا أطروحة خاصة، لا تزال في حال من الحراك الذي يتقدم ويتأخر لكنه لم ينتج شعاراً وأطروحة ومعايير ثابتة، بل لم ينتج الى الآن ما يمكن ان يسميه سياسة أو اتجاهاً سياسياً، فالانكفاء هو ما يسم هذا الحراك وما يبدو إقبالاً واستشرافاً سرعان ما يتراجع لدى أول احتكاك وأول مناوشة.

وعلى كل حال فإن النتائج تبقى غامضة ورغم الرفض العام فإن هناك ما يتعدى الرفض وما لا يقف عنده، بل هناك في الإنكار نفسه نوع من الإيجاب إذ لا يبعد الحس بالجماعة وعبادة الاشخاص كثيراً، فهناك عند المنعطفات كثير من هذا الحس وكثير من هذا الولاء للأشخاص. إذ لا يمكننا بسهولة أن نتميّز في الموقف الإنكاري إنكاراً تاماً وهناك غالباً وراء هذا الرفض العام درجة من التقبّل.

ثلاثة أشهر من الانتفاضة لم تسمح بجرأة بتقديم وجه أو تفويض أحد أو رفع شعارات محددة، فالأرجح أن التقلب بين الأطروحات والشعارات هو ما يسم هذا الحراك، كما أن الزهد في تقديم الذات عبر الحراك أو تقديم الحراك كمواجهة خاصة، هذا الزهد هو تقريباً سياسة الحراك، بل إذا شئنا أن نجد الحراك سياسة وجدناها في هذا الزهد بالسياسة والترفع عليها وإنكارها، بل يبدو أن كره السياسة والابتعاد عنها هما تقريباً سياسة الحراك التي أبقته إلى الآن منكفئاً على نفسه متعالياً على كل سياسة، ولو استبدل ذلك بشتيمة، فسمة الحراك الأساسية، إذا كانت له سمة، هي هذا اللفظ للسياسة واعتبارها بصورة عامة فساداً أو نهباً للدولة، وبطبيعة الحال كذباً حراً.

يقوم الحراك في بلد فيه من الجيوش اثنان على الأقل مجتمع مسلح، وغالباً ما يكون السلاح طوائفياً، فحزب الله أقوى الجيوش وأهمها. رغم ذلك فإن الدولة وهي صاحبة الجيش الأول لا تتخذ من الحراك موقفاً ثابتاً، بل لا تتخذ مواجهة محددة، وإذا وقعت بينها وبين أجزاء من الحراك مناوشات فهذه مناوشات عارضة سرعان ما تنتهي بدون أن تتحول إلى معارك، ثم أن قادة الدولة لا يتخذون من الحراك موقفاً ثابتاً، بل هم في خطبهم يأتون على ذكره بقدر من التقدير.

كل هذا يتم بدون أن يجد من الحراك موقفاً موازياً، فشتم الدولة هو بدون شك ميزة الحراك وعلامته الفارقة، والتنصل من الدولة هو بدون شك مثال الحراك وغايته، ولا يبرر الزهد في السياسة سوى هذا الإنكار. السياسة مرذولة مرفوضة من الحراك أياً كان السياسي ومهما كان. الساسة لصوص نهابون ولا يتعدّون ذلك وهم جميعهم من الطراز نفسه "كلهن يعني كلهن". لذا يبدو الزهد في السياسة احتقاراً لها ويبدو بالدرجة الأولى ابتعاداً عنها. الحراك بهذه الصفة يستغرق في سياسة يرفضها أصلاً وأساساً. إنه بذلك يطال بناء الدولة نفسها ولا يرى فيها سوى آلة التعدي والسرقة والنهب. لكن هذا الزهد في السياسة والانكار لها، يؤديان ولا يؤديان، الى سياسة والى دولة.