جانب من إحياء ذكرى الهولوكوست في إسرائيل.(أرشيف)
جانب من إحياء ذكرى الهولوكوست في إسرائيل.(أرشيف)
الأحد 26 يناير 2020 / 18:07

إحياء ذكرى وذاكرة الهولوكوست

ثمة ما يتجاوز نتانياهو نفسه، ويحيل إلى المسافة التي قطعتها أيديولوجيا اليمين الإسرائيلي في الداخل والخارج، وما طرأ من تغيّرات حاسمة على موازين القوى في الإقليم والعالم

لا يمكن، ولا يجب، تجاهل حدث بحجم إحياء ذكرى تحرير معسكر أوشفيتز النازي في بولندا، قبل خمسة وسبعين عاماً. فالمناسبة شهدت مشاركة ما يزيد عن أربعين من قادة الدول، وجرت مراسمها في متحف "ياد فاشيم" (يد واسم) في القدس.

لن يخطئ أحد إذا فسَّر الحدث كإنجاز لنتانياهو في لحظة حرجة يلعب فيها بكل ورقة ممكنة، في ظل الملاحقة القضائية، للبقاء في سدة الحكم، وتفادي احتمال السجن والفضيحة. وهذه الورقة تُضاف إلى ما يُشاع حول قرب الإعلان عن "صفقة القرن" قبل جولة انتخابية مُنتظرة في مارس (آذار) هي الثالثة في أقل من عام.

بيد أن ثمة ما يتجاوز نتانياهو نفسه، ويحيل إلى المسافة التي قطعتها أيديولوجيا اليمين الإسرائيلي في الداخل والخارج، وما طرأ من تغيّرات حاسمة على موازين القوى في الإقليم والعالم. ولن تكون تحوّلات كهذه مفهومة دون لمحة تاريخية سريعة.

فعلاقة الدولة الإسرائيلية، والصهيونية كأيديولوجيا، بالهولوكوست، أي المحرقة النازية لليهود في أواخر سنوات الحرب العالمية الثانية، والتي أصبح معسكر أوشفيتز عنوانها الرئيس، مرّت بمراحل مختلفة. في أوّل عقدين من حياة الدولة الإسرائيلية لم تكن للهولوكوست، وللناجين من المحرقة، المكانة المركزية السائدة والشائعة هذه الأيام. وهذا ما تجلى في مناهج التعليم، والإعلام، والأيديولوجيا السائدة.

نظر الإسرائيليون في تلك الفترة إلى اليهود الناجين من المحرقة بنوع من الاستعلاء. وفي مطلع الخمسينيات، مثلاً، مع بداية التفاوض حول التعويضات الألمانية نشب خلاف بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بن غوريون، ورئيس المنظمة اليهودية العالمية، ناحوم غولدمان، حين رفض الثاني تمكين الدولة الإسرائيلية من تمثيل يهود العالم، وامتلاك الحق في التفاوض باسم الأحياء منهم والأموات. وقد اقترح بن غوريون، في حينها، منح اليهود، الذين قضوا في المحرقة، الجنسية الإسرائيلية، واعتبارهم مواطنين إسرائيليين.

وإذا كان من الممكن العثور في تواريخ كثيرة لعلاقة الدولة الإسرائيلية بالهولوكوست على علامات فارقة من نوع محاكمة أيخمان في مطلع الستينيات، وصعود اليمين الإسرائيلي بزعامة مناحيم بيغين، إلى سدة الحكم 1977، إلا أن العامل الأكثر حسماً كان، على الأرجح، فوز إسرائيل في حرب عام 1967، واحتلال كامل فلسطين الانتدابية، وسيناء المصرية، والجولان السورية. وعلى خلفية كهذه تتجلى الدلالة الحقيقية لتاريخ انتقال الهولوكوست من الهامش إلى المتن، في عهد بيغين، وما تلاه.

ولا يبدو من قبيل المجازفة القول إن إسرائيل كلما ازدادت قوّة وعدوانية ازدادت رواية الهولوكوست مركزية في روايتها التأسيسية، وخطابها السياسي، ومرافعاتها الأخلاقية. ففي زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، مثلاً، رد رئيس الوزراء، بيغين، على منتقدي العدوانية الإسرائيلية بالقول لا يحق للعالم، بعد المحرقة، انتقاد اليهود، بل عليه أن يجثو طالباً منهم الصفح والمغفرة.

وبهذا المعنى، أيضاً، يستكمل نتانياهو مشروعاً أيديولوجيا لآباء اليمين الصهيوني، ويخطو به خطوات واسعة إلى الأمام، فثمة علاقة عضوية بين إفشال مشروع حل الدولتين، والتمهيد لضم مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية، وإضفاء الشرعية على الاحتلال من ناحية، والاستثمار السياسي للهولوكوست، بما في ذلك تجريم كل نقد مُحتمل لإسرائيل كدولة إلى نوع من العداء للسامية، من ناحية ثانية.

هذا من ناحية المسافة التي قطعتها أيديولوجيا اليمين الصهيوني. وبقدر ما يتعلّق الأمر بما طرأ من تحوّلات على موازين القوى في الإقليم والعالم، فإن شخصاً شهد مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1975، وسمع المرافعات التي انتهت بقرار يدين الصهيونية كنوع من العنصرية، لن يفشل في إدراك ما وقع من تحوّلات على مدار خمسة وأربعين عاماً مضت.

فالأمم المتحدة نفسها تراجعت على القرار في عام 1991 استجابة لشرط فرضته إسرائيل اقترنت فيه المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بالتراجع عن القرار المذكور. وعلى مدار ثلاثة عقود مضت، وفي ظل تحوّلات إقليمية ودولية يصعب حصرها، بدأت المسافة تضيق بين ثلاثة مفاهيم مختلفة هي العداء للسامية، والعداء للصهيونية، والعداء لإسرائيل.

والمفارقة، في هذا الشأن، أن حلفاء لإسرائيل من نوع اليمين الديني والقومي في الغرب، كانوا تقليدياً أصحاب أيديولوجيا معادية للسامية، وأن اليمين الديني والقومي في إسرائيل يتحالف مع هؤلاء متجاهلاً ميراثهم التاريخي، وأيديولوجيتهم العنصرية. فالمهم، في نظره، تحويل العداء لإسرائيل والصهيونية إلى نوع من العداء للسامية.

وهذه، في الواقع، مجازفة محفوفة بكثير من المخاطر، فما يتجلى كنجاح لمشروع اليمين القومي والديني في الوقت الحاضر، سيرتد على الأرجح بطريقة سلبية عليه. وهذا ما يجب ألا يغيب عن الذهن، فمن حق العالم، ومن واجبه، إدانة العداء للسامية، بالمعنى السياسي والأخلاقي والأيديولوجي، إلا أن تحويل كل نقد محتمل للصهيونية، كأيديولوجيا، وإسرائيل كدولة، إلى نوع من العداء للسامية، يُشوّه المعنى الحقيقي للمفهوم، كما استقر في ذاكرة بني البشر في أربعة أركان الأرض.