لقطة من مسرحية «الأمير الصغير».
لقطة من مسرحية «الأمير الصغير».
الأحد 26 يناير 2020 / 18:10

الأمير الصغير والفكر المستنير

وزارة التربية في الإمارات أثبتت أنها تعي احتياجات المتعلم في القرن الحادي والعشرين فقررت هذه الراوية على طلابها بعد أن كان هذا الإبداع بعيداً عن الحقيبة المدرسية للطالب العربي

من فاته الذهاب إلى أوبرا دبي في إجازة نهاية الأسبوع فقد فاته الكثير. فقد شهدت دار الأوبرا على مدار ثلاثة أيام عرضاً مبهراً من العروض الحية، قدمته فرقة فرنسية استناداً على رواية الأمير الصغير.

لا يمكن الحكم بأن هذا العرض هو الأجمل، فهذا أمر يصعب حصره بين آلاف العروض التي قدمت لهذه الرواية ما بين مسرح حي، ومسرح استعراضي، ومسرح عرائس، وعروض ضوئية وبصرية، وأفلام كرتون.

ولا يبدو الرقم الذي أقدره بالآلاف مبالغاً فيه، في ضوء عدد النسخ التي تطبع من هذه الرواية، فقد ترجمت إلى جميع اللغات الحية، ويفوق مجمل ما طبع من الأصل والترجمات المختلفة ما يفوق المئة مليون نسخة، ولا يقل عدد النسخ المطبوعة سنوياً عن مليون نسخة.

مؤلفها هو الكاتب الفرنسي أنطوان دوسانت إكزوبيري الذي توفي عام 1944 عن خمسة وأربعين عاماً أثناء مهمة استطلاع عسكرية، ولم يعثر على جثمانه إلا بعد أربعة وأربعين عاماً، ورائعته الأمير الصغير ليست الوحيدة، فله رواية أرض الرجال، وطيار الحرب وأعمال أخرى. ظهرت فكرة الرواية حين رسم على غطاء طاولة صبياً صغيراً أشقر، فاقترح عليه صديق أن يجعل منه بطل قصة للأطفال. فكان هذا العمل.

ورسالته في كل ما كتب واضحة: القيم الأخلاقية والسلام الداخلي والتأمل الطفولي. كان إكزوبيري عالمي الانتماء ورسالته تتوجه إلى الإنسانية جمعاء، ورؤيته تتمثل في أن حياتنا لا معنى لها إلا عندما تلتقي مع حياة الآخرين، وأن أجمل ما في الحياة هو قدرتنا على الاحتفاظ بطفولتنا وما تحمله من حب للكون، ونضارة لا تذبل، ودهشة لا تختفي، وأسئلة لا تنتهي.

دائماً ما ينظر لهذا العمل الأدبي بعين الإعجاب والتبجيل، وأنا أقدر المصنفين الذين يجعلون هذه الراوية واحدة من أفضل الكتب التي كتبت في القرن العشرين، لكن هذا أمر تتعدد فيه وجهات النظر، ويرتابني شك حين تكثر المبررات التي تعتمد على الرقم المرتبط بالدعاية التجارية، والتعامل مع الإنتاج الإبداعي كمنتج تجاري، كالحديث عن 1300 دار نشر قامت بطباعة الكتاب وأتساءل ما أسماء دور النشر تلك؟ أو كالحديث عن 270 لغة ترجمت إليها الرواية، والعدد يبدو غير دقيق لمن يعرف عدد اللغات الحية؟ أو الحديث عن إعطاء الراوية المرتبة الأولى في عدد النسخ التي طبعت لكتاب غير ديني.

لكن هذا لا يمنع من الإقرار بأن الرواية تستحق الخلود والإشادة، خاصة وأنها حققت معادلات يصعب تحقيقها في عالم الأدب. منها: أن الرواية صالحة للكبار والأطفال على حد سواء. ومنها: أن المنتج البصري المرافق للنص برسومات المؤلف ذاته مما يجعل العمل منتجاً إبداعياً متكاملاً لصاحبه، لا ينازعه أحد في الإبداع. ومنها: أن الاقتباسات من نص الرواية أقرب ما تكون إلى النصوص الإنسانية الخالدة بقدرتها على الانفكاك من الحدث والشخصية والتماهي في النفس البشرية والعقل الإنساني.

أكثر الأمور إيلاماً في الرواية هو قرار الأمير الصغير التخلي عن أهم ما يملك عندما لم يكن مستعدًا له، ولذا ترك الزهرة التي أحبته: "فهو صغير ولا يعرف كيف يحُب الأزهار بعد" ولعل هذا سبب هجرة الأمير لكوكبه، بحثاً عن حب كان في متناول يده وفرط فيه.

تفاصيل رحلته غير العادية بين الكواكب كانت مدهشة. إنها رحلة لإعادة رؤية العالم بزاوية أخرى، رحلة مليئة بالتساؤلات عن معاني الحياة، وسيبدو ما يعتقد أنه منطقي مضحكًا بالنسبة إليه، وبالرغم من أن الرواية خيالية إلا أن الشخصيات التي مر بها الأمير في كل كوكب يمكن إسقاطها على أشخاصٍ من حياتنا الواقعية وعلى ذواتنا أحياناً.
رحلته إلى كوكب الأرض تحديداً كانت تحمل الكثير من الرؤى الأخلاقية التي كان الكاتب يتمنى وجودها في الأرض، ولا يمكن أن تنسى من حواراتها العبارات التالية: "أن القلب وحده يمكن أن يبصر، أما العين فإنها لا ترى الجوهري"، و"إن الوقت شفاء الأحزان".

وزارة التربية في الإمارات أثبتت أنها تعي احتياجات المتعلم في القرن الحادي والعشرين فقررت هذه الراوية على طلابها بعد أن كان هذا الإبداع بعيداً عن الحقيبة المدرسية للطالب العربي – عدا لبنان والمغرب - . وهذا أمر من شأنه أن يوسع مدارك الطفل الخيالية والإنسانية، ويعمق النظرة الجمالية للكون وللذات.

عالم الأطفال هو العالم الأقرب للنجاح الإداري والتميز البشري، فعوالم الأطفال الحالمة لا تعرف قيود المستحيل، ولا تعترف بحدود المنطق، وتتمرد داخليا على محاولات الكبار إبعادهم عن الخيال وجرّهم نحو الواقعية .أتمني أن يدرك المعلمون ذلك وهم يتعاطون مع الرواية حتى يجعلوا من طلابنا أمراء حكمة وتنوير.