غلاف رواية "خطأ غير مقصود" (أرشيف)
غلاف رواية "خطأ غير مقصود" (أرشيف)
الإثنين 27 يناير 2020 / 19:50

أسس السبعينات

يمهد رشيد الضعيف لروايته "خطأ غير مقصود" بعبارة اقتطفها من عصام العبد الله الذي هو أحد ثلاثة راحلين أهداهم كتابه. أما العبارة فهي: "كنت طيراً أحط على الشجرة التي ترحب بي، صرت شجرة تنتظر أن يحط عليها طير"، بين كنت وصرت تمتد رواية رشيد الضعيف فهي تبدأ "أساس مشكلتي ومبدأها الأول قد تأكد بالبرهان، أخطأت أمي خطأً قاتلاً إذ فطمتني باكراً" هكذا يبدأ الضعيف من زمن الطفولة، بل من قبل الولادة، من تبكير أمه بفطمه.

السبعينات هي منذ البداية تظلل الرواية، حتى حين لا تكون حاضرة، فمنذ حكاية الفطام المبكر هي القائمة، وهي التي تستقطب الذكريات والوقائع المروية، التي ينتقي منها، في الأغلب، ما يغدو أساساً

لا يسوق الضعيف هذه المسألة إلا وهو يسميها الأساس والمبدأ الأول، سينتقل منها الى طفولته فسيرته بعدها، وهي تتتابع باتساق وانسياب رغم اختلاف حوادثها وخروج بعضها عن السيرة، الى أن نصل منها الى ما نعتبره عمر الكاتب.

نحن لا نعرف تواريخها بل نتلمحها ونحدسها حدساً، حتى نبلغ، مع الكاتب، سبعيناته وهي تكاد تكون علة الرواية ومطرحها الحقيقي، الذي ينتشر في أطرافه كل ما يتعدى الطفولة. غير أننا في تضاعيف السبعينيات نرتد الى حكاية الفطام المبكر، هذه الذي استهل بها الرواية، لنجد أن هذه العقدة لا تزال في الأساس، ولا تزال مبدأ أول "صدمة هزمتني، حتى باتت الهزيمة من طبعي، ومن طينة نفسي ومن مكوناتها، وحتى بت لا يمكنني أن أكون بطلاً شجاعاً... وهذا ما جعل ممكناً بالنسبة لي تقبل كل هزيمة في ما بعد".

تبدأ رواية رشيد الضعيف من الطفولة، لكن من منتقيات الطفولة. ينتقي الكاتب ما يتذكره عن شجاعة أبيه، التي كانت تظهر في أول الأمر ضعفاً واستسلاماً للوالدة، فما كان يبدو قوة للآخرين، قوتهم على نسائهم لم يكن هكذا في بيت الراوي، فالأب كان رقيق الحاشية مع زوجته ولكنه في فصل آخر، ينقلب على ضعفه ويسيء معاملة الزوجة، ما يجعل الأبناء، الذين فوجئوا بذلك، يعمدون إلى ضربه. لكن من ضعف الأب ينتقل الراوي الى ضعفه هو الذي توسل للضابط بالقول: إنه فقير، ثم غضبه من أبيه الذي اكتفى بأن قال للزعيم عنه إنه ابنه، دون أن يتقدم إليه ويحضنه ويقبله، ومن الطفولة ينتقل الراوي إلى برلين حيث نشر الخارطة أمام سائق الباص، فأعماه وجعله يضطرب في قيادته للباص، الذي ماج واهتز بين يديه. ثم ينتقل الراوي الى غرامياته التي ينفد منها إلى السبعينات.

السبعينات هي منذ البداية تظلل الرواية، حتى حين لا تكون حاضرة، فمنذ حكاية الفطام المبكر هي القائمة، وهي التي تستقطب الذكريات والوقائع المروية، التي ينتقي منها، في الأغلب، ما يغدو أساساً.
أي أن ما يرويه الضعيف هو ما ينقله معه إلى سبعيناته، وما يبدو له باقياً من سيرته فيها. إنه يراجع حياته على ضوئها ويقوم باختيار ما يستمر منها فيها، وما يصل معه إليها. ومع أن الراوي يستعيد روايات متقطعة من مراحل حياته، فإن هذه الروايات المنتقاة في ظلال السبعينات تبدو متسلسلة متتابعة، بل تبدو منتظمة، فنحن نرى أمامنا، منذ الصفحات الأولى، الشخص نفسه.

الشخص الذي ابتلي بفطامه المبكر منذ الأشهر الأولى في حياته، هو الشخص الذي ينتقل من عمر إلى عمر، ومن مرحلة الى مرحلة. إنه المهزوم والضعيف والمقبل على الحياة بانتظام حسابي، وبتدبير مرقوم، فجل ما يتذكره الروائي، وما ينتقيه من حياته، يستمر في سبعيناته، ويبقى في تكوين صاحبها، حتى تلك الوقائع التي تأتي من خارج السيرة أو من هامشها، مثل تجاهل محمود أمين العالم، وأنف الأم، إلا أن هذه الهوامش، لم تكن هنا، إلا لأنها، بطريقة أو بأخرى، من الأساس.