الأربعاء 5 فبراير 2020 / 18:38

عبد الله الغذامي والريادة النقدية

النصوص العظيمة قدرها أن تقرأ باستمرار حتى تنتعش بشكل دائم، وهذا مصدر ديمومتها، كما يحدث مع النبع المتجدد/ الغذامي

إنها ليلة تتصل بشؤون القلب والعقل، لأنها من أجل الاحتفاء بقامة ثقافية كبيرة، لكننا نتطلع إلى أن نكون دوماً في هذه الليلة، مثل كل الليالي، نضع المفكرين في مقاماتهم التي يستحقونها، وهذا لا يتحقق، كما أعتقد، إلا على عتبات النبضات والوجدان والمشاعر، وهنا نستحضر ابنة الماجدي بن ظاهر التي يروى لها الشعر من القرن الثامن عشر، تقول في ذلك:
ناس تجادا والجدا من عيونها
وناس تجادا والجدا من قلوبها

نسأل الله أن نستدل ونبرهن الحقائق دوماً، كما تفعل سلمى بنت بن ظاهر أول شاعرة إماراتية باستدلال القلب وببصيرة الوجدان، لا ببريق العين، فليس كل ما يبرق جوهرة.

وعندما حدثني الصديق العزيز الدكتور محمد الصفراني عن المشاركة في ليلة احتفائية بالدكتور عبد الله الغذامي في ملتقى قراءة النص بجدة، تساءلت ما الشكل الذي تتوقع أن تتنزل فيه مشاركتي؟ فرد قائلا: شهادة أدبية. فقلت له ماذا تعني؟ فأجاب الشهادة شكل يجمع بين الأدب والقانون. فقلت في قلبي هذا يستدعي شكل المحكمة التي تقوم على القاضي والشهود والمتهم والمحامي والمحلفين، وهو ما لا طاقة لي به، إلا إن كنا نحن المتهمين والغذامي هو القاضي، ذلك لأنه قد أدى مهمته مخلصاً على أتم وجه، وقد وفى من أجل مصلحة قرائه، وعلينا نحن والأجيال أن نحسن قراءته واستكمال مسيرته، فمنجزه النقدي والفكري يحرض على عدم الاستسلام للمعطى والجاهز، فالنصوص العظيمة قدرها أن تقرأ باستمرار حتى تنتعش بشكل دائم، وهذا مصدر ديمومتها، كما يحدث مع النبع المتجدد/ الغذامي.

عندما نبحث عن كلمة الغذامي في محركات البحث بالشبكة العنكبوتية فإن أبرز وصف له هو "أستاذ النظرية الأدبية" وهذا وصف دقيق وغير دقيق في الوقت نفسه، لأن الغذامي أخلص للنظرية وفهمها وعرف قوانينها جيداً وخبر مصطلحاتها تماماً لا لكي يحوم حولها ويكررها بل ليقوضها ويعيد بناءها باستمرار، ولذلك فإنه قد استعمل أعداء النظرية من أجل تشريحها وتفكيكها، فهو من أوائل الذين وظفوا دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات التابع والنسوية والنقد الثقافي والنقد السيرذاتي لكي يثبتوا بأن النظرية متحيزة في شكلها التقليدي للمستعمِر دون المستعْمر وللمركزية نقيضًا للهامش وللذكور لا الإناث وللجمالي من غير الثقافي وللموضوعي والأكاديمي بمعزل عن الذاتي والاعترافي.

بعد أيام قلائل يبلغ الأستاذ الدكتور عبد الله الغذامي الخامسة والسبعين عاماً من عمره الحافل بالإنجازات، ليكون قد أمضى نحو خمسة عقود في صحبة النص، قارئًا فذا، رؤية وسعة اطلاع وثقافة ورقياً وأخلاقاً، مع أن ّمن يلتقيه يظن أنه لم يتخط سن الخمسين بعد، فهو يتجدد بتجدد منهجية البحث والقراءة والتأليف والثقافة التي انعكست عليه حيوية وشبابا دائمين، فميزة الغذامي الحركة المستمرة، والعبور الدائم من النص المقروء إلى الثقافة البصرية ومن النظرية الأدبية إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومن الافتراضي إلى الواقعي ومن اللغة إلى الأنساق ومن النخبوية إلى الشعبوية ومن التراث إلى الحداثة ومن الحكاية إلى الخطاب ومن الآفاق العالمية إلى المحلية ومن القبائلية إلى الجماهيرية ومن النص الإبداعي إلى النص الفقهي ومن اللون والعرق إلى الجنوسة ومن الذكورة إلى الأنوثة ومن الأكاديمية إلى السير ذاتية.

فرحلته البحثية المثمرة التي مرت دون رتابة أو سكونية، تجعله عصيًا على القولبة والتصنيف، وكلما صدر كتاب له تساءلنا، هل سيتوقف الغذامي بعد هذا الكتاب؟ ثم ما يلبث أن يفجأنا بكتاب جديد ملهم، فندرك أن الإبداع لا نهاية له، وأن غايته لا تدرك وأن الباحث الحق لا تنتهي مسيرته ولا يتوقف مداد قلمه وفكره. وهو ما أحسسناه يوم أصدر عام 1996: "المرأة واللغة"، إذ قلنا يومها إن صاحبه، تبطيء به سنونه ولعله سيتوقف عنده كما قال الشاعر العربي:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر

لكن ذلك كان ظناً، وأكذب الحديث الظن فسرعان ما فاجأنا عام 2000 بما هو أكثر أهمية، أقصد "النقد الثقافي" الذي أنسانا ما قبله، ثم تساءلنا ترى ماذا سيكتب بعد النقد الثقافي؟ ولو قارنا بين مراجع "الخطيئة والتكفير" ومراجع "النقد الثقافي" سنجد الفارق بيّنا. وإنني أزعم أنه لم يستخدم مرجعاً واحداً باللغة الإنجليزية في الخطيئة والتكفير، وكرر ذلك في النقد الثقافي، وهذا لا يعني بأنه يسير على غير هدى بل ينمو نمواً متجدداً في مشروع ثقافي متماسك منسجم غير مصطنع، فما إن يؤلف كتاباً جديداً حتى يلتفت العالم العربي إلى مراجعه، مثلما حدث مع العملين آنفي الذكر، فهل كنا في العالم العربي لنتعرف، على سبيل المثال، على كتاب "موقع الثقافة" لهومي بابا أو "مقدمة لنظريات ما بعد الاستعمار" أو كتاب "النقد الثقافي النظرية الأدبية وما بعد البنيوية" لليتش، أو كتب سبيفاك فيما بعد الكولونيالية عن النسوية والتابع، قبل كتاب الغذامي "النقد الثقافي"، وإن كنا نسمع عن هذه الأعمال أو نقرؤها بلغتها الإنجليزية فإننا لم نجد تطبيقاتها في العربية قبل هذا العمل المهم.

ما الذي يجعل عبد الله الغذامي على هذا النحو، وكيف يمكن وصفه بعيداً عن القراءات النصية لمشروعه النقدي؟ لعل جزءاً من الإجابة يكمن في أن الغذامي من النقاد القلة في العالم العربي الذين يتميزون بقدرة على البناء المنهجي الرصين واختيار نماذجه التطبيقية بدقة، بحيث لا تشعر بالتناقض بين المهاد النظري الذي عادة ما يعتمد فيه على النظرية الأدبية الأنجلو أمريكية، ونقائضها ويقوم بتطبيقها على الثقافة العربية القديمة والمعاصرة دون أن تشعر بالمبالغة أو لي عنق النظرية أو النص بل تشعر باجتياز الغذامي ضفة الثقافة العربية إلى ضفة النظرية الأنجلو أمريكية أو العكس أو تحس بعبوره من النص إلى النظرية الأدبية أو العكس!

لا تجد في كتب الغذامي زوائد نظرية متعالمة، فهو يأخذ بدقة متناهية ما يهم أطروحته، وينقله بلغة أدق. لقد أدرك أن التنظير الزائد لا يخدم النص، فأخذ ما يعزز فهمه لقراءة الثقافة، عينه في كل ذلك على القارئ، يحدوه الإخلاص الكبير والمثابرة والتراكم العلمي، وهو ما يميزه عن غيره بجدارة، وما يعطيه خصوصيته في هذا المجال.

إن النظرية التي تأتي في استهلال بعض كتبه لا تفهم إلا بعد قراءة تطبيقها مع النصوص العربية، ففي كل كتبه تجد للمؤلف حركتين، الأولى مع النظرية والثانية مع النص، فهو غير متحيز لا للنظرية ولا للنص، بل يتخذ من الفضاء البيني مدخلا من أجل الفهم ومصلحة قرائه، لذلك فإنّ قراء عبد الله الغذامي، إما معجبون به وإما ناقمون عليه، نعجب به لأنه يمتلك القدرة على مزج النظرية بالنص بحميمية بحيث لا نشعر بالاغتراب، نفضل الهوية المهجنة، وينقم عليه بعضهم لأنه يرفض المزج بين النظرية وتطبيقاتها، بين الآخر والذات، لأنهم من دعاة الصفاء والنقاء.

نتعرف مع الغذامي على ملامح القارئ العتبي الواقع في الفضاء الثالث، فالنظرية عنده ليست منعزلة عن النص محل التطبيق، بل هما واحد، والقارئ في الفضاء العتبي أو الثالث، كما يقول هومي بابا، قارئ ذو كيان رجراج ومائع ومتحرك في هويته وذو طبيعة حوارية ومتحولة وواقعة بين بين، وعابرة مراجعها وأصولها، ولذلك فإنك عندما تقرؤه تكتشف بيسر بأنه يبدع الفضاء الثالث ليجعل بنية المرجع أو النظرية تنصهر في النص فلا تفهم أياً منهما بمعزل عن الآخر، وهذا الانصهار أو التداخل يتحدى مفهوم الهوية الثابتة والجامدة للثقافة.

إن فهم عبد الله الغذامي للثقافة العربية قديمها وحاضرها مكنه بيسر وسهولة من أن يجعل النظرية في انسجام مع النص العربي، وبقراءتهما استطاع أن يشيد بعده الثالث؛ الماضي والحاضر يتعايشان فيه والنص والنظرية يألفان بعضهما في انسجام إيجابي.

إننا ونحن نحتفي اليوم بقراءة النص عند الغذامي فإننا نحتفي بالبيت الراسخ البنيان يعلو على فلك الثريا:
ولي بيت علا فلك الثريا
تخر لعظم هيبته البيوت
هو بيت النسب والحسب عند عنترة وهو بيت النظرية ونصوصها عند الغدامي، هو البيت الكبير الذي جاء في افتتاحية أولاد حارتنا:

كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة ... وقال في حسرة: هذا بيت جدنا، وجدّنا هذا لغز من الألغاز. ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها... سمعت مرة رجلاً يقول: هو أصل حارتـنا... وسمعت آخر يقول: كان فتوة حقاً، ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته ... لماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ إنها تروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم.


إن تلقي البيت الكبير هاهنا يشبه تلقي بعض القراء للبيت النقدي عند الغذامي، رغم أن المعمار النقدي قبل الغذامي كان بلا نظام، أو نظامه لم يألف الثقافة العربية، والغذامي هو الذي وضع نظامه للجيل الذي ننتمي إليه في الخليج العربي، فمن خلاله تعرفنا على قدرة النظرية في مساعدتنا على فهم تراثنا وثقافتنا، ولعلي لا أجانب الصواب إن قلت بأن حكاية البيت تبدأ حجراً حجراً، والحجر الأول في معمار النقاد عادة ما يكون حجيراً، أي حصاة صغيرة، وهذا طبيعي في نمو أي معمار نقدي، لكن معمار الغذامي قد بدأ كبيراً منذ كتابه الأول.

يعد كتاب الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية أول كتاب في الثقافة العربية يقارن بين البنيوية والتفكيك ويطبق على شاعر سعودي حديث، واللافت أنه لم يعتمد إلا على مرجع واحد عربي في النظرية وهو كتاب كمال أبو ديب "جدلية الخفاء والتجلي". كان كتاب الخطيئة والتكفير هو بداية الغيث والبداية هنا مكتملة. فلننظر إلى مراجعه الإنجليزية في الكتاب، لا تشي إلا بنظرة دقيقة في الاختيار، معبره عن أغراضه ومن ذلك اليوم إلى يومنا هذا ظل الغذامي تربطه علاقة نوعية في اختيار المراجع بدقة متناهية، ساعده في ذلك اطلاعه الواسع على مصطلحات النقد ومتابعتها في قواميسها وموسوعات النظرية ومختاراتها في اللغة الإنجليزية.

لكنه في الوقت نفسه ظل مرتبطاً، ليس مع كتاب جدلية الخفاء والتجلي، بل مع كتابه جماليات التجاور أو تشابك الفضاءات الإبداعية الذي يقول فيه: "أصبحت مشروعية النشاط النقدي مهددة بالانقراض لذلك لم يعد أمام النقد من خيار سوى أن يطور منطلقاته التصورية وآليات عمله لكي يستطيع أن يثبت أقدامه المتزالقة تثبيتا نسبيا في موقع يمنحه مشروعية جديدة" وإذا كان عبد الله الغذامي يريد تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي إلى أداة في نقد الخطاب أو كشف أنساقه، فإن أبوديب يريد أن يحول النقد من كونه باحثاً عن المعنى والبنية والوحدة إلى منظور مختلف يتمثل في التجاور.

لم يكن عبد الله الغذامي بمعزل عن الذاتية التي أعاد لها الاعتبار في كتابه المهم "حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية" وكأنه في صدد الاحتجاج على النظرية الأدبية التي تأتي على النقيض من الذاتية، ويمكن أن يشار إلى أن الكتاب يقدم تجربة قرائية مغايرة تقوم على ما يعرف بالنقد الاعترافي أو السير ذاتي الذي يقدم حكاية القارئ مع النص ومؤلفه، وتنشأ من خلاله حكاية القراءة الغذامية وسياقاتها، فيشترك الفعل النقدي مع الفعل السيرذاتي، وكأن الكتاب يلمح إلى أن النظرية الأدبية عدوة للخصوصية لأتها نمط خطابي يكبح ويقمع التعابير البيانية، فتتحول الكتابة إلى موضوع حر كما خارج أسوار النظرية.

كتاب حكاية الحداثة يقدم طريقة نقدية مغايرة، تفكك الإكراهات النقدية أو تلك التي تسميها جين تومبكينز بتقاليد الانضباط، وتدعو إلى الكتابة بصورة أكثر فطرية وأسلس من النثر الأكاديمي، تتساءل تومبكنز: "كيف تستطيع أن تقرأ أو أن تناقش أمراً ما دون أن تصف الحالة السردية التي هي فيها مثل انتحار عزيز عليها والحزن الذي تشعر به لحظة القراءة، تقول: "إنك لا تستطيع أن تتكلم عن حياتك الخاصة وأنت تؤدي عملك المختص فيه، يجب أن تتظاهر بأن المعرفة أو أي شيء تكتب عنه لا يتعلق بحياتك، وأنه أكثر سمواً وأهمية ويتعالى عما هو شخصي وذاتي" ففي كتاب حكاية الحداثة نعرف الكثير عن الغذامي، وهذه المعرفة تستهوي القراء، لأنهم يحبون القراءة عن الخبرات السردية الخاصة، فيدخلون في علاقات حميمة مع المؤلف ليقارنوا تجربتهم بتجربته، ومثل ذلك يجعلهم أكثر تمثلا وقرباً منه.

في الكتاب يظهر لأول مرة في النقد العربي الحديث هذا التمازج الرفيع بين الشخصية والبحث العلمي، يتجلى صوتان: صوت الناقد الذي يريد أن يشرح النسق وصوت المؤلف الذي يدون عاطفته.

إن النقد الاعترافي أو السيرذاتي ليس من النقد التأثري، فهو مسلح بالنظرية، وعندما نتابع الخطاب في الكتاب نجده مشغولًا بالنظرية النقدية لكنه يحاول دمج الذات والسيرة في الحكاية من جهة، ومن جهة أخرى ينشغل بالنظرية ومواجهة النقاشات الاجتماعية والأكاديمية السائدة. وكأن الغذامي يتحدى فكرة الأنساق التي تلح عليها الدراسات الثقافية، فيتحول النسق العام إلى تجربة شخصية مفعمة بالخصوصية وتأكيد التفاعل بينهما، فيقرأ نصه "حكاية الحداثة" من منظوره الشخصي، ويمكن أن نجمل هنا بعض الخصائص للنقد السيرذاتي، كما تجلى عند الغذامي في حكاية الحداثة:

⁃ التركيز على الخبرة الدافعة للتفسير.
⁃ استخدام ضمير المتكلم حتى لا يحيد الأسلوب فيطلع القارئ على الحالة السردية التي يعيشها الناقد لحظة القراءة.
⁃ يبدأ بالاعترافات عن علاقته بالنص ويصله بالفهم والسيرة.

وأخيراً، إنني لا أعرف ناقداً عربياً ما تزال طروحاته النقدية تبعث على السجال والحوار ككتابات عبد الله الغذامي، إنها كتابات نقدية تسعى لتبيان الجميل وكشف الغطاء عن كل ما هو براق وليس كل ما يلمع ذهباً.