عراقيون يتظاهرون في بغداد.(أرشيف)
عراقيون يتظاهرون في بغداد.(أرشيف)
الأحد 9 فبراير 2020 / 19:54

انتفاضة العراقيين وعلاماتها الفارقة

تبدو النزعة التحررية والاستقلالية العراقية، مرفوعة على ساعد وطنية عابرة للتحيزات الجهوية والطائفية، علامة صريحة وفصيحة على استعادة العافية، وعودة الروح

بعد أربعة أشهر، وسقوط ما يزيد على خمسمائة قتيل، وجرح قرابة ثلاثين ألفاً من المتظاهرين السلميين، في مدن عراقية مختلفة، ثمة ما يبرر البحث عن علامات فارقة تميّز الانتفاضة العراقية. ويمكن، في هذا الصدد، الكلام بقدر من الثقة عن الحقائق التالية:

أولاً، أن ديمومتها، أي استمرارها على مدار أشهر، والدماء التي دفعتها، تنزع عن الانتفاضة سمة الهبّة العابرة، وتضفي عليها قدراً كبيراً من الصدقية والعمق إلى حد يبرر الكلام عن تمثيلها لقطاع واسع من العراقيين. ففي انتشارها في مدن مختلفة ما يدل على تجاوز تحيّزات جهوية وطائفية أسهمت، على مدار عقدين من الزمن، بتحريض من النخب السائدة، في تصدّع الهوية الوطنية الجامعة.

ثانياً، تجد الهوية الوطنية الجامعة، أيضاً، ما يدل على فعالية وكفاءة وجودها في حقيقة أن القسم الأكبر من المشاركين في المظاهرات هم من فئة الشباب، الذين وُلدوا قبيل سقوط نظام البعث الصدّامي، وعاشوا طفولتهم، وتجاربهم التكوينية الأولى، في ظل النخب الطائفية وميليشياتها التي جاءت في ركاب المحتلين، واستولت على البلد وثرواته، وشكّلت نظام المحاصصة الطائفية، أي النظام نفسه الذي خرج الشباب إلى الميادين العامة للمطالبة برحيله.

ثالثاً، على خلفية ما جاء في البندين الأوّل والثاني يتجلى البعد الاجتماعي والسياسي، والعمق الوطني، للانتفاضة العراقية، كما وتكتسب شعاراتها الرئيسة، أي القضاء على الفساد، وإلغاء نظام المحاصصة الطائفية، والميليشيات المسلّحة، والحد من تدخل الدول الأجنبية، وأبرزها إيران، في الشأن الداخلي العراقي، دلالات تحررية واستقلالية.
وهذه مسألة فائقة الأهمية، وذات تداعيات بعيدة المدى. فبعد عقدين من الهزّات الاجتماعية والسياسية المتلاحقة، والوقوع في درك الحرب الأهلية، ومعاناة الإرهاب والجحيم الداعشيين، وبعد تدمير مدن، وتفتيت مجتمعات، وتفكيك هويات، وسقوط ما لا يحصى من القتلى والجرحى، وما نجم عن هذا كله من جراح مرئية، وغير مرئية، تبدو النزعة التحررية والاستقلالية العراقية، مرفوعة على ساعد وطنية عابرة للتحيزات الجهوية والطائفية، علامة صريحة وفصيحة على استعادة العافية، وعودة الروح.

رابعاً، ولعل في هذه المكوّنات مجتمعة ما يُفسِّر تكتيكات نظام المحاصصة، والميليشيات الطائفية المسلحة، في التعامل معها. فلا يمكن للنخب المُهيمنة، والميليشيات السائدة، وهي متضامنة ومتحالفة رغم ما يبدو من تناقضات بينها على السطح، إلا أن تأخذ الانتفاضة، التي تشكّل، في نظرها، خطراً وجودياً، على محمل الجد.

لذا، ثمة ما يبرر التفكير في تعاملها مع المتظاهرين السلميين، على مدار أربعة أشهر، بتكتيكات تتراوح ما بين محاولات الاحتواء من ناحية، وابتكار أشكال مختلفة من العنف من ناحية ثانية. وعلى خلفية هذه التكتيكات يمكن تفسير استقالة رئيس للوزراء، وعقدة تكليف شخص يحل محله ويحظى بموافقة "الشارع"، وكذلك محاباة ميليشيات بعينها للانتفاضة في لحظة، والانقضاض عليها في لحظة لاحقة. وفي السياق نفسه، يزول كل غموض مُحتمل بشأن "أطراف مجهولة" تسعى لاختراق المتظاهرين من الداخل، وتشويه حراكهم والتشكيك في صدقيتهم، وقتلهم إذا، وكلما، استدعى الأمر.

أخيراً، لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن ما وصفناه بعلامات فارقة سيكون حاضراً، بقوّة، في الحقل السياسي العراقي، في هذه المرحلة، ومراحل لاحقة، بصرف النظر عن التطوّرات المُحتملة للانتفاضة الحالية، والمفاوضات الجارية في "الشارع"، وأروقة الحكم، حول كيفية إعادة ترتيب البيت السياسي.

فإسقاط النظام القائمة بأركانه، ومكوّناته، يبدو أمراً بالغ الصعوبة، خاصة وأن الميليشيات المسلّحة لن تتنازل عن سلطتها بسهولة، كما وأن "لعبة الأمم" التي تُخاض فيها حروب بالوكالة على الأرض العراقية لن تتوقف بسهولة، أيضاً. لذا، ينفتح الوضع القائم على احتمالات كثيرة منها العودة إلى مربع العنف، بذرائع مختلفة، لإجهاض الانتفاضة، أو لجوء الميليشيات المسلحة، والنخب السائدة، إلى جراحات تجميلية لاحتوائها.

ومع ذلك، لن يتمكن أحد من التفكير في مستقبل أفضل للعراق، وإخراجه من المأزق الراهن، وتضميد جراح الماضي والحاضر، دون الاستفادة مِنْ، والبناء على، ما تجلى في الانتفاضة الحالية: وطنية عراقية عابرة للتحيّزات الجهوية والطائفية، وذات مضامين اجتماعية وسياسية معادية للفساد، ونزعة استقلالية معادية للتدخلات الأجنبية في الشأن العراقي.

وإذا جاز الكلام عن خارطة لطريق آمن إلى مستقبل أفضل، فإن هذه هي العلامات التي ترسمها انتفاضة الشباب العراقي على الطريق.