الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أرشيف)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أرشيف)
الخميس 13 فبراير 2020 / 19:36

تراجيديا الزعامة في فلسطين

لا غبار على موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الرافض لـ "صفقة القرن" التي أصبحت "رؤية ترامب للسلام".

لتجويف المتواصل للمؤسسات التمثيلية في المنظمة، النقابات والاتحادات الشعبية، التي جرى تحويلها إلى ممثليات صغيرة لبعض المتنفذين، ولخدمة مصالح صغيرة بحيث تحولت النقابات إلى مجموعات من المرافقين وفقدت دورها وانحسر حضورها في أوساط الشرائح التي وجدت لتمثلها

لا غبار على وقوفه وحيداً، أو يكاد، في مواجهة تسونامي من الضغوط والتحولات لتمرير "الصفقة الرؤية"، وإصراره على إخراجها من التداول مرجعيةً الى جانب القرارات الدولية والاتفاقيات والمبادرة العربية.

الرؤية وملحقاتها، وهذا يشمل الخارطة التي خلصت إليها، تتجاوز فكرة أنها غير ملائمة، أو أنها لا تصلح، فهي تتحرك خارج المنطق، وخارج ثوابت الصراع ومعادلاته وخارج الشرعيات، لتدخل في جدول الإهانة الوطنية والاستفزاز وصولاً للعبث.

مبكراً رفض أبو مازن الصفقة، وربط رفضه بوعد الرئيس الأمريكي نقل سفارته إلى القدس، ووجه غضبه في تسريبات مقصودة نحو ممثلي الإدارة الأمريكية، الثلاثي الذي أدار عملية احتيال استفزازية طويلة، كوشنر، وغرينبلات، وفريدمان، كان من أهدافها، كما يتضح الآن، الحصول على رفض فلسطيني مطلق من جهة، وتحقيق اختراق في البيئة الإقليمية العربية الحاضنة للموقف الفلسطيني من جة ثانية، رفض يتجاوز المرونة غير المسبوقة التي أبداها الرئيس الفلسطيني تجاه معظم الأفكار والحلول المطروحة، ويستثمر حالة الانقسام والوهن التي تعيشها السلطة الفلسطينية، وهوان منظمة التحرير الغريب، واختراق يستفيد من واقع ما بعد "الربيع العربي"، وتراجع فلسطين في أولويات المنطقة وصراعاتها، وتحول فلسطين في بعض الأجندات العربية إلى عبء على "برامج التنمية" في ظل بروز صراعات جديدة، عبء يمكن التخفف منه أخيراً بعد أن أثقل كاهل المنطقة بتكاليفه!

في متوالية رتيبة، وقاموس ضيق يفيض بمفردات السلام، ونبذ العنف، والبحث عن الحوار والنوايا الحسنة.. أشياء من هذا القبيل، التي أصبحت سمة خطاباته ومضمونها المتكرر، يواصل الرئيس الفلسطيني تقديم روايته الشخصية للصراع الفلسطيني الصهيوني.

تتبدل الأسماء والأشياء، وتتغير وقائع الميدان، ولا يتغير الخطاب، فيما تتواصل النبرة الرتيبة والاستطرادات الشارحة، والتأكيد وإعادة تأكيد الرغبة غير مستجابة لـ"السلام".

لا غبار على الرفض والشجاعة في المواجهة، ولكن الغبار يعلق بقوة ويشكل طبقة كثيفة على الأداء والأدوات التي يستخدمها أبو مازن في مواجهة الصفقة والكارثة التي تندفع نحوها القضية الفلسطينية.
ثمة غبار كثير وصدأ يغطي مفاصل العمل في السلطة، فوضى صلاحيات مع المنظمة.

التجويف المتواصل للمؤسسات التمثيلية في المنظمة، النقابات، والاتحادات الشعبية، التي جرى تحويلها إلى ممثليات صغيرة لبعض المتنفذين، ولخدمة مصالح صغيرة بحيث تحولت النقابات إلى مجموعات من المرافقين، وفقدت دورها وانحسر حضورها في أوساط الشرائح التي وجدت لتمثلها.

الأدوات والآلية التي ساهمت عبر عقود في دحرجة الموقف الفلسطيني نحو هذه اللحظة، لا تزال قائمة، الخطاب ولغة التشكي وتأكيد ما لا ضرورة لتأكيده لم يتغير، رغم أن كل شيء تغير في محيط الموضوع الفلسطيني.

الرجل الذي لم يتمكن من النجاة من المقارنة مع سلفه ياسر عرفات، الشخصية الطاغية التي احتفظت بحضورها وحيويتها لأسباب كثيرة، منها رغبة الناس وحاجتهم لـ"بطل" يمكن تذكره في الأوقات القاسية، بحيث تحولت المقارنة إلى ما يشبه محاكمة شعبية متواصلة، ليست لصالحه على الاطلاق، بينما يتعمق في عهده الانقسام، وتذهب غزة أبعد تحت حكم الإخوان المسلمين وأحلامهم في الولاية، وتواصل منظمة التحرير تفككها وانهيار مرافقها وحضورها.

في تراجيديا المصائر التي تتبعت الزعماء الفلسطينيين منذ استشهاد الشيخ عز الدين القسام في أحراش يعبد في 1935، القسام القادم من جبلة على الساحل السوري، إلى عبد القادر الحسيني الذي استشهد في القسطل ضاحية القدس في 1948 بعد عودته من دمشق خاوي الوفاض من السلاح الذي وعدت به الجامعة العربية، الحاج أمين الحسيني الذي أسس الهيئة العربية العليا التي ورثتها منظمة التحرير، والذي اتهم بمعاداة السامية والتحالف مع النازيين الألمان، وسُجن ونُفي وهرب أكثر من مرة في فرنسا، وطورد من قبل بريطانيا والولايات المتحدة والنفوذ الصهيوني، قبل أن يلتجئ إلى مصر ويعاود نشاطه الذي لم يتوقف حتى رحيله في بيروت في 1974، ياسر عرفات مؤسس فتح وباعث الثورة الفلسطينية المعاصرة، الذي قضى في مشفى باريسي بعد أن حاصره جيش الاحتلال في مربع "المقاطعة" في رام الله، ورحل وسط غموض ما زال قائماً، كان في القسام أشياء من دروس الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وكان في عبد القادر المتدرب في العراق شيئاً من القسام، كان المفتي الخريج العسكري في الجيش العثماني محصلة لخبرة طويلة في مواجهة الاستعمار، ودروس الثورة العربية بقيادة شريف مكة، وكان في عرفات شيئ من كل هذا وأشياء من الحاج الحسيني، وبدا في مفاصل معينة وكأنه امتداد لدأب المفتي الاستثنائي وقدرته على البقاء والمناورة والعناد والبراغماتية، في هذه القائمة يدخل محمود عباس من باب موارب، ليس به أشياء من الحاج أو عرفات، مثل حلقة منفصلة ولكنه الآن في الثمانين يذهب بعيداً في التراجيديا.