شموع وأزهار تكريماً لضحايا الهجوم العصنري في هاناو بألمانيا.(أرشيف)
شموع وأزهار تكريماً لضحايا الهجوم العصنري في هاناو بألمانيا.(أرشيف)
الأحد 23 فبراير 2020 / 18:42

هجوم هاناو وخطاب الكراهية

صعود حزب البديل، وحركات كبيغيدا، في ألمانيا، ظاهرة لا يمكن فهمها إلا كجزء من ظاهرة صعود النزعات القومية المتطرّفة في أوروبا، والغرب

تُقرع أجراس إنذار كثيرة في الولايات والمتحدة وأوروبا للتحذير من خطر الشعبوية، وتصاعد النزعات القومية العنصرية، وكراهية الآخر الغريب والمُختلف. وإذا كان دوي الأجراس، في السنوات الأخيرة، قد أصبح مألوفاً ومسموعاً بدرجات متفاوتة في بلدان مختلفة، فإن الدوي في ألمانيا، بشكل خاص، يكون مصحوباً بذكريات الماضي وكوابيسه المُفزعة في كل الأحوال. فهي البلد الذي أشعل حرباً عالمية، قبل ثمانية عقود، بعدما تمكنت منه أيديولوجيا النازية العنصرية، والبلد الذي أصابته وصمة الإبادة العرقية، المعروفة بالهولوكوست في الحرب العالمية الثانية.

لذا، لا ينبغي التقليل من حجم الدوي والفزع الذي اجتاح البلاد بعد الهجوم العنصري الإرهابي، على مقهيين يرتادهما أجانب، في مدينة هاناو الألمانية مساء الأربعاء الماضي، والذي أسفر عن مقتل عشرة أشخاص، خاصة وأنه وقع بعد أيام قليلة من إعلان السلطات عن تفكيك خلية إرهابية كانت تخطط لشن هجمات على مهاجرين ومساجد. وقد سبقت التطوّرات الأخيرة حادثة اغتيال سياسي ألماني مؤيد للهجرة، قبل ثمانية أشهر.
   
وعلى خلفية كهذه، ثمة ما يبرر القول إن الهجوم العنصري الإرهابي في هاناو ليس الأوّل من نوعه، ولن يكون الأخير، على الأرجح. فعلى مدار العقود القليلة الماضية قُتل، حسب بيانات رسمية، قرابة مائة شخص في هجمات وقعت على خلفية عنصرية. ومن المُلاحظ أن وتيرة الهجمات تسارعت في السنوات الأخيرة. وهذا، بالتحديد، ما تسعى السلطات السياسية والأمنية لتشخيص دلالاته الاجتماعية والأيديولوجية، وتجلياته التنظيمية، وما يحظى بالجانب الأكبر من الاهتمام في تحليلات المُعلّقين على الشأن العام.

وثمة، في هذا الشأن، أكثر من قاسم مشترك بين هؤلاء، فظاهرة اليمين المتطرّف، التي تضم ألوان طيف لتيارات وميول قومية وعنصرية مختلفة، لم تعد محصورة، كما كانت في الماضي، في جماعات نازية هامشية، قليلة العدد، ومشوّشة الفكر والشعارات، بل اكتسبت قدراً من الكفاءة السياسية والأيديولوجية بعدما عثرت في أوساط أكاديميين ومثقفين على ممثلين يمكنهم صياغة الميول العنصرية، وكراهية الغريب والمُختلف، بلغة وشعارات شعبوية تُخفي الماضي المُفزع والأسود للنازية القديمة.

وقد وجد هذا كله تعبيره الحركي والسياسي في ظهور حزب البديل من أجل ألمانيا، قبل سبع سنوات، ونجاحه في تكوين قاعدة شعبية مكّنته من الفوز بمقاعد في البرلمان الألماني، وكذلك الفوز بمقاعد، عن تيار المحافظين، في البرلمان الأوروبي. وبهذا المعنى اكتسب الحزب شرعية سياسية، وأصبح منافساً قوياً لأحزاب تقليدية هيمنت على الحياة السياسية في البلاد بعد الحرب العالمية الثانية مثل الحزب المسيحي الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الاجتماعي.

وإلى جانب حزب البديل تجدر الإشارة إلى الحركة المعروفة باسم بيغيدا، التي نشأت قبل ست سنوات، وتمكنت تكوين قاعدة شعبية، وتجنيد أعضاء يشاركون في التظاهرات التي تحرص على تنظيمها ضد الهجرة والمهاجرين في مدن ومناسبات مختلفة.

ولم يغب عن أذهان الكثيرين، في المانيا وخارجها، أن الرسالة العنصرية لبيغيدا، واسمها الفعلي "وطنيون ضد أسلمة الغرب" حتى وإن تقنّعت في الوقت الحالي بقناع كراهية المهاجرين المسلمين، إلا أنها قد أسهمت في ترويج أفكار عنصرية لا تقتصر عليهم، وأبلغ دليل على هذا الهجوم على كنيس يهودي في ألمانيا بدوافع عنصرية، وتزايد مظاهر العداء للسامية.

والمُلاحظ، في هذا الصدد، أن صعود حزب البديل، وحركات كبيغيدا، في ألمانيا، ظاهرة لا يمكن فهمها إلا كجزء من ظاهرة صعود النزعات القومية المتطرّفة في أوروبا، والغرب بشكل عام. وهذه الظاهرة من نتائج العولمة، التي أثارت إطاحتها للحدود التقليدية بين الدول، خاصة في أوروبا، مخاوف تيارات وأوساط اجتماعية مُحافظة. وهي المخاوف نفسها، التي وجدت تعبيرها، مؤخراً، في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وما تجدر ملاحظته، في هذا الصدد، أن كل حركات اليمين المتطرّف في أوروبا تنسّق بينها، وتتبادل الخبرات.

عثرت كل تلك الحركات في ظاهرة الإرهاب، التي ضربت العالم على مدار العقدين الماضيين، وفي موجة الهجرة واللجوء من بلدان تشهد حروباً أهلية، ونزاعات مسلحة، في آسيا وأفريقيا، إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، على ما يبرر ممارسة التحريض، وبث مشاعر الخوف والكراهية، لتكوين قاعدة شعبية، ودخول معترك العمل السياسي لا كتنظيمات سرية، تعمل تحت الأرض، بل كأحزاب وحركات سياسية شرعية يمكنها ادعاء تمثيل قطاعات واسعة من الناخبين.

وبهذا المعنى يمكننا فهم الدعوة إلى حظر ظاهرة حزب البديل، وبيغيدا، أو التضييق عليها من جانب السلطة المركزية، بالمعنى السياسي والأمني، ووضعها تحت رقابة دائمة، من جانب أوساط اجتماعية مختلفة في ألمانيا بعد وقوع هجمات عنصرية كتلك التي وقعت في مدينة هاناو قبل أيام.

وفي هذا المعنى، أيضاً، يمكن فهم نقد مجلة دير شبيغل، وهي ذات نفوذ واسع في أوساط نخبة السلطة والمجتمع، للسلطة الفيدرالية، بعد هجوم هاناو، لأنها استثمرت كل مواردها في مراقبة ظاهرة الإسلام السياسي، والإرهاب، وأغفلت ظواهر العنصرية والتطرّف القومي، وخطاب الكراهية، في المجتمع الألماني. فخطاب الكراهية سمٌ، كما قالت المستشارة ميركل. وهذا السم قد يوهن مجتمع الديمقراطية الليبرالية وسلطته السياسية، ونخبه الثقافية، ويطيح به، ما لم يتمكن كل هؤلاء متكاتفين ومتضامنين من بلورة آليات كفيلة بمكافحته، والحد من آثاره التدميرية في المدى المتوسط والبعيد.