مظاهرة في لبنان ضد الفساد.(ارشيف)
مظاهرة في لبنان ضد الفساد.(ارشيف)
الإثنين 24 فبراير 2020 / 18:02

الفساد الجذري

لم تكن الحرب في جانب منها سوى صراع على الدولة، وبالتأكيد تقاسمت الجماعات المتحاربة هذه الدولة التي تحولت إلى دويلات وإلى شعوب بحالها

أحد رؤساء الجمهورية اللبنانية في خمسينيات القرن الماضي ذاع عنه فساده، وحين أتمّ فترة رئاسته وعاد الى حياته الخاصة التي ظلّ فيها سياسياً بارزاً بعد وفاته ظهر أن ما اعتبر فساداً لم يزد عن فيللاً على الساحل، ولم يبدُ على أي من أولاده الثراء. الرئيس هو كميل شمعون الذي ثارت ضده انتفاضة عروبية ذات لون ناصري أدى إليها قبوله بمشروع ايزنهاور الأمريكي الذي جعل لبنان في المعسكر الغربي الذي واجهه عبد الناصر، الرئيس المصري والزعيم المحبوب من العرب جميعاً يومذاك والباسط ظله على العالم العربي بجهاته كلها. لم يكن فساد كميل شمعون أكثر من فيللا على الشاطئ. في ما بعد وجدنا رؤساء للجمهورية والنيابة والوزارة يمعنون في فسادهم، إلى حد أن يتسمّوا بالنسبة المئوية التي يتقاضونها مقابل تواقيعهم. الآن حين ترفع الانتفاضة التي لا تزال منذ ثلاثة أشهر في الشارع يومياً شعار فضح الفساد، يتلقف الشعار السياسيون أنفسهم المتهمون به، والذين تعاقبوا على السلطة عقوداً، وهم يزاولونه مع أقاربهم وأنصارهم، حتى بات تقليداً وتراثاً وصار علنياً وظاهراً للعيان لا يتستر عليه أحد إلا باللفظ والادعاء، وغير ذلك هو مُعلم مشهور، بل هو قاعدة من قواعد التعامل وشرط من شروطه. بعرف الجميع ذلك ويضيفونه إلى كلفة المصالح ونفقتها، يعرفون كم يكلف كل أمر وكم يلزم، من الرُّشى لكل عملية، وكم يسنّ كل نافذ النسب المئوية أو المبلغ المقسوم لها. ليس هذا شأن النافذين والرؤساء فحسب، فهو يتحدّر منهم إلى سواهم من أهل الرتب، ولو المنخفض منها، فمن هم في الأعلى ومن هم في الأسفل يتقاضون كل بحسبه وحسب المصلحة الموكلة إليه. لكن الأكيد أن الجميع في مواقعهم، وبحسب هذه المواقع، يتقاضون المقسوم الذي هو معلوم ومحدّد.

بعد الطائف الذي رسم دولة ما بعد الحرب الأهلية التي خاضها، كل بحسب طائفته وجماعته، توزعت الطوائف الخارجة من الحرب الحصص، بحسب ما انتهت اليه الحرب والتوازنات التي استقرت عليها. لم تكن الحرب في جانب منها سوى صراع على الدولة، وبالتأكيد تقاسمت الجماعات المتحاربة هذه الدولة التي تحولت إلى دويلات وإلى شعوب بحالها. لقد انهارت الدولة بقانونها وشرائعها ودستورها. صار القانون مجرد لفظة وصارت الدولة ايضاً مجرد ملعب للجماعات اللبنانية، وبخاصة زعمائها وأركانها ومؤسساتها. الدولة انقسمت في الداخل، وانقسمت مؤسساتها، وحملت هذه، في كل منها، دمغة طائفة. ما كان هناك، والحال هذه أي معنى للبحث عن صيغ المحاسبة والمساواة والقانون. الطائفة تملك المؤسسة وتملك بالتالي ميزانيتها ومالها، ويُمعن أركانها وزعماؤها، وبالأخص، باستغلال هذه المؤسسة التي تتحول إلى شركة خاصة. هكذا يبدو الإثراء غير المشروع قانوناً مشروعاً تماماً، فهو ما تستنزفه الطائفة لنفسها وما تقتطعه لذاتها، وإذا زاد كان هذا أنسب لها، فهي عندئذ تنال الحصة الأكبر، واذا كان الزعيم هو الذي يحظى بالكثير فهو زعيمها، وما يقتطعه إنما يقتطعه باسمها ولذا تبارك هي ما يفعله وكأنها هي التي فعلته.

الدولة تنهار فتتحول إلى مخزن كبير أو إلى ملعب حر للجميع. هكذا يغدو النهب عاماً وينبت في كل مكان بوصفه من عناصره، ومن طرائقه ومن ميزاته. تغدو كل وظيفة، ليس فقط لنفسها وإنما بما تجرّه من منافع. هكذا يغدو النهب آلية ويغدو مع الوقت مشروعاً بل ونظاماً، أو يغدو له نظامه وآليته. إنه متجذّر بحيث يغدو مع الوقت علماً على كل شيء وهيكلاً لكل شيء. في حال كهذه لا نعرف اذا كان زواله يعني أقل من زوال الدولة نفسها، بل وتغيير المجتمع بكليته. الانتفاضة اللبنانية التي تحمل شعار إزالة الفساد ترفعه كمثال يستحق ثورة، ويستحق انتفاضة.