تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 2 مارس 2020 / 22:12

هزل الديكتاتوريات

النظام الشيوعي يبدو في رواية بروسيج غريباً تماماً على الشبّان الذين يشكلون أبطال روايته. نحن لا نلتقي بهذا النظام الا مع المخابرات التي تقطن في الجوار بل هي قد تكون سراً كل المجتمع

النظام العقائدي، أياً كان نوعه، نازياً كان أم شيوعياً أم دينياً يستدعي الهزل بجموده وانسلاله إلى كل تضاعيف الحياة، وتحجره عند كل تفصيل وهامش وعَرَض، وتحويله كل ذلك إلى صنم وإلى إيمان لا يحول ولا يمكن تعديله أو الزيادة عليه أو ترميمه، ورفعه الدولة والحكم والنظام الى صعيد قدسي لا يجوز القفز عليه أو التشكيك فيه أو حتى تناوله كبقية الأشياء الواقعية الأرضية البشرية. النظام العقائدي على هذا النحو مثقل بالأوثان، ثم أنه، في كل ناحية منه، عجيب واقع في التناقض والتضاد الى حد الكاريكاتور، أي أنه، في مغالاته وتصنيماته وتخشبه وتحجره، يُفصح باستمرار عن مادة للسخرية والاستغراب الى حد الدهشة. أي أنه، في جوانبه، مبعث للضحك والتندّر، فالنظام، بطبيعته هذه، مخزن للمفارقات بلا نهاية ونوادر غير محدودة، لذا فإن الروايات والمسرحيات والأفلام التي تناولت هذه الأنظمة والطغاة التي تسيّدوا عليها، عامرة بالكاريكاتور والسخرية، وكلاهما موجود في أي من تفاصيل وهوامش النظام العقائدي.

رواية توماس بروسيج الألماني الشرقي عن النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية "في الجزء الأصغر من شارع الشمس" لا تفاجئنا فقط بطلاوتها وإسلاسها وتفجرها بالسخرية في كل ثوانيها، فنحن نجد لهذه السخرية حداً واقعياً وأصلاً في شتى مناحي ودقائق الحياة اليومية. نحن هكذا نفهم فوراً وبدون، تردد، حب الشبان الألمان الشرقيين للبلوز والجاز وحيلهم للحصول على أسطواناتهما، غير أننا نفهم أيضاً كيف يخشى هؤلاء من أن يفصحوا للشرطي عن هوية الأسطوانة التي يحملها إلى حفل تنصيبه ملازماً، فتنتهي بأن تعرّيه أمام الضباط الذين حضروا الحفل، وتكون النتيجة بالطبع، إسقاط رتبة الملازم المستقبلي وإعادته شرطياً عادياً يتربّص بهؤلاء الذين قضوا على مستقبله.

لكن السخرية تستمر مع الخال الذي يأتي من ألمانيا الغربية لزيارة أقاربه، وهو يخفي في ثيابه أغراضاً ليست محرّمة في ألمانيا الشرقية، لكن الرعب يقوده إلى ذلك. ثم أننا هكذا نلتقي بميشا الذي تتعب أمه بالتوسط له، إما بشراء المجلة الحزبية وإما بعلاقة مع المخابرات، ليحظى بالدراسة في " الدير الأحمر" تمهيداً لإرساله الى موسكو. ميشا هذا يتعلق بميريام الجميلة ويلحقها إلى فصل الرقص الذي لا يحسنه، ثم يقضي وقته بالسعي لاستعادة رسالتها إليه التي انتقلت، بطريقة ما، إلى المنطقة المحرمة، وعليه أن يدبّر وسائل تقنية للوصول اليها، ظناً منه أن الرسالة قد تكون رسالة حب. السخرية تستمر حين نتعرف على ماريو والمرأة الوجودية المعجبة، من بعيد ومن برلين الشرقية، بجان بول سارتر الذي، مع ذلك، لا تعرفه تماماً المعرفة سوى أنه، بدل الشيوعية، إيمانها الجديد.

النظام الشيوعي يبدو في رواية بروسيج غريباً تماماً على الشبّان الذين يشكلون أبطال روايته. نحن لا نلتقي بهذا النظام الا مع المخابرات التي تقطن في الجوار بل هي قد تكون سراً كل المجتمع. إنها كالمنطقة المحرمة التي ترقد فيها رسالة ميريام إلى ميشا، لكن النظام ليس حاضراً إلا من فوق، ومن بعيد، في حياة الناس. هكذا يحلم ماريو والفتاة الوجودية بشراء كل أرض ألمانيا الشرقية وإقامة نظامهم عليها. هكذا تفشل أساليب ميشا التقنية للوصول إلى رسالة ميريام وتنتهي بإحراقها. هكذا يهرب صاحب ميريام الألماني الغربي إلى برلين الشرقية ويتوسط لقبوله فيها، بعدما افتُضح كلص ومحتال. النظام المتغرّب يصنع للناس حياة متغربة إنهم، في مفارقاتهم وسخرياتهم وحتى في عصياناتهم، يستمرون في مجاراة النظام. إنه غريب عليهم، وهم يصنعون، بإزائه حياة غريبة.