موظفون من لجنة الانتخابات يعملون على فرز أصوات الإسرائيليين الخاضعين لحجر صحي بسبب كورونا.(أرشيف)
موظفون من لجنة الانتخابات يعملون على فرز أصوات الإسرائيليين الخاضعين لحجر صحي بسبب كورونا.(أرشيف)
الإثنين 9 مارس 2020 / 18:24

عالم أصغر من فيروس

أوقف كورونا الكثير من نشاطنا البشري، لكنه لم يوقف الحروب، ربما لأن مصانع السلاح تحتاج إلى الحروب بقدر حاجة شركات الدواء إلى الأوبئة والفيروسات الجديدة

حروب كثيرة تشتعل في الكوكب وتعيد رسم الخرائط السياسية لكنها لا تعطل الحياة ولا تشل حركة البشر، وكذلك تعجز الظواهر الطبيعية القاسية والمفاجئة كالأعاصير والفيضانات وانفجار البراكين عن تعطيل الحياة وتغيير روتينها وتحديد النشاط البشري في أضيق المساحات وتغيير عادات الناس والحد من التواصل الحقيقي والمباشر بينهم، لكن فيروساً مجهولاً ومستحدثاً يفعل كل ذلك.. وربما يفعل أكثر.

أعني فيروس كورونا الذي عطل الحياة في ثلثي الكوكب تقريباً خلال أسابيع قليلة من ظهوره، وأجبر الدول على اتخاذ إجراءات احترازية طالت المدارس والجامعات والملاعب الرياضية والتجمعات حتى في المطاعم وصالات الأفراح وبيوت العزاء.

كلنا مصابون بالخوف من كورونا، وكلنا مسكونون بهاجس الإصابة بهذا الفيروس حتى ونحن نستسلم لشروط الوقاية ونلتزم بالعزل الاختياري ساعات طويلة كل يوم. وربما يعود خوفنا في جزء كبير منه إلى ما رافق ظهور هذا الفيروس من تركيز إعلامي بدا وكأنه مقصود وموجه لتكثيف شحنات القلق في نفوسنا، وإبعادنا عن متابعة ملفات سياسية ومعيشية كانت تحوز على جل اهتمام البشر وخاصة في مناطق النزاعات والحروب المشتعلة في مناطق مختلفة من العالم وخاصة في شرقنا الأوسط المبتلى بالاحتلالات الأجنبية للأرض العربية في فلسطين وسوريا، وحروب الطوائف في أكثر من بلد عربي، والفقر والجهل والتخلف المتفشي في بلادنا المبتلاة بالقمع وإرهاب الجماعات الظلامية.

استطاع الفيروس المستحدث أن يضرب في مقتل ثاني أكبر اقتصادات الأرض، وأن يحول أسطورة البزنس الصيني إلى وهم، كما استطاع أن يضعف قيمة الدولار وأسعار صرفه مقارنة بالعملات الأخرى. واستطاع الفيروس أيضاً أن يحرم شركات الطيران من مليارات الدولارات نتيجة الاستنكاف عن السفر، وأن يحول المطارات التي كانت مكتظة إلى قاعات فارغة وموحشة لا تسمع فيها غير صدى صوتك. وكذلك تراجعت حركة التجارة العالمية مثلما تراجع سوق الخدمات بسبب الخوف من الاحتكاك بالآخرين.

أما اجتماعياً فقد عزز كورونا من عزلة الفرد، وضاعف سطوة وسائل التواصل الالكتروني على حياتنا، وأضعف تواصلنا الحقيقي حتى في اللحظات التي ينبغي فيها التواصل وجهاً لوجه.

كلنا مرعوبون من كورونا رغم أن أعداد من قتلهم هذا الفيروس أقل كثيراً من أعداد الذين يقتلون أو يصابون في حوادث السير، ورغم أن ضحايا السرطان مثلاً أكبر عدداً بآلاف الأضعاف من ضحايا كورونا، وكذلك الأمر بالنسبة لضحايا الانفلونزا!

أوقف كورونا الكثير من نشاطنا البشري، لكنه لم يوقف الحروب، ربما لأن مصانع السلاح تحتاج إلى الحروب بقدر حاجة شركات الدواء إلى الأوبئة والفيروسات الجديدة.

قبل سنوات قليلة تعرض العراقيون إلى أنواع كثيرة من أسلحة الدمار الشامل التي جلبها الاحتلال الأمريكي، وقضى الكثيرون منهم، وما زال الآلاف يعانون حتى الآن من تأثيرات هذه الأسلحة، لكنهم لم يتوقفوا لحظة عن محاولة إخراج الاحتلال من أرضهم، ولم يوقفوا لحظة نضالهم لكشف مهزلة التقاسم الوظيفي بين واشنطن وطهران في العراق.

وفي فلسطين التي تواصل وحدها التصدي للفيروس السياسي الأخطر في المنطقة والذي يتمثل في الاحتلال الأجنبي الغريب، تبادر السلطة إلى تعطيل المدارس وعزل مدينة بيت لحم وكأن كورونا أخطر من الاحتلال أو كأن تجمع الفلسطينيين أشد خطورة عليهم من التنسيق الأمني مع الاحتلال!
رعب كورونا مشبوه لكنه في كل الأحوال رعب موسمي سينتهي قريباً مثلما انتهى رعب البشر من الإيدز والإيبولا وانفلونزا الطيور وانفلونزا الخنازير، وسيعود البشر إلى الاهتمام بملفات تتجاوز التهديد الآني بالفيروس المجهول، وتركز على التهديد الخطير للحياة والذي يتمثل بالمؤامرات المكشوفة على شعوب تريد مراكز القرار الدولي محوها وإخراجها من الجغرافيا بعد السطو على حضورها في التاريخ.