من فيلم بارازيت.(أرشيف)
من فيلم بارازيت.(أرشيف)
الإثنين 9 مارس 2020 / 18:28

"بارازيت" الغرابة المتسلسلة

لسنا هكذا أمام رواية تقليدية. إن احتيال الفقراء وتفكيكهم الذكي، بل وطمسهم للمجتمع الثري العادي، هذا ليس فقط عبقرية الشر بل هو يضعنا أمام ما يشبه مسرحية العبث

يتراءى لمشاهد الفيلم الكوري "بارازيت" أنه يُطالع، مرحلة بعد مرحلة ومن المقدمات إلى العقدة إلى النهايات، رواية كاملة مبنية على أصول الرواية وقواعدها ومساراتها، من الفقر الذي يعانيه أبطال الرواية في بيتهم، الذي يكاد أن يكون مبولة عمومية، إذ يقصد الناس ما يشبه أن يكون مطلّه وفناءه، ليبولوا هناك أمام ساكنيه وتحت أعينهم. من هذه المقدمة ننتقل إلى تسلل هؤلاء الأشقياء، بالحيلة والتدجيل، إلى أسرة غنية يمعنون فيها تزويراً واحتيالاً إلى أن يحتلوا فضاءها ويطبقوا عليها، لكن هذا الأمر لا يدوم، إذ ينكشف في مجزرة يتصفى فيها، ليس فقط الأسرة الثرية ولكن أيضاً الأسرة المحتالة، التي تتبعها الرواية الى نهايات ما تبقى منها. هذا ما يبدو رواية متسلسلة محكمة، لكن عناصر بنائها ليست، على الاطلاق معتادة او تقليدية. إنها، منذ البداية، متغرّبة عجيبة.

ليس بطل الفيلم الأول، إبن الأسرة الشقية، سوى شخص يقفز من العادية الشديدة إلى الاستثنائي، الذي يكاد يكون عبقرياً، بمجرد أن يصبح في القصر، ليدرّس الإبنة، بفضل شهادة جامعية مزورة. لن يقف التزوير هنا إذ إن ابن الأثرياء الصغير هو أيضاً شخصية متغرّبة وعجيبة، إنه يرسم لوحات عبقرية تذكّر بالتكعيبية ويصر على أن يخترع حياته اختراعاً، وكأنها، هي الأخرى، أعجوبة تتمخض كل لحظة عن لعبة جديدة. البطل الذي تفاتحه السيدة الثرية بقلقها على إبنها، يقترح لها فتاة ضليعة لمتابعته. لن تكون هذه الفتاة المزعومة سوى أخته التي، بدورها، تلجأ الى تزوير فتترك سروالها في السيارة، ما يؤدي إلى اتهام السائق واقتراح أبيها مكانه، ثم بالطريقة نفسها تحلّ الأم مكان مدبّرة المنزل التي تُطرَد منه باحتيال من الإبنة تتهمها بعده بالسل. في المقابل هناك الأثرياء العاديون تماماً لولا الإبن، والذين تتوازى عاديتهم مع استثنائية الأسرة الفقيرة وتبدو لذلك مكشوفة أكثر ما يكون. هذه أحجار البناء الأولى التي تذكّر ببازوليني في جانب منها. أن عبقرية الأسرة الفقيرة مقابل عادية ورتابة الأسرة الثرية التي تتفكك أمام احتيال الأولى وحيويتها. لسنا هكذا أمام رواية تقليدية. إن احتيال الفقراء وتفكيكهم الذكي، بل وطمسهم للمجتمع الثري العادي، هذا ليس فقط عبقرية الشر بل هو يضعنا أمام ما يشبه مسرحية العبث، فكل ما يجري يبدو وكأنه يتم في نوع من السحر، وكل أبطاله، في أدوارهم العجائبية ليسوا سوى صانعي هذا المنطق العجائبي أو اللعبة العجائبية المحكمة أو الحساب الذي تخرج دقته وإحكامه من مصادر، العبث والغرابة مقوماها الرئيسيان. هنا تبدو الرواية محكمة في منطقها وتسلسلها وتدرجها، بل تبدو وكأنها هكذا تقلّد الرواية وتدعيها، لكنه في الواقع، مصنوعة من مادة جذورها أعمق، في الباطن والمجاز والرمز، تصطنع التطور العادي والتمرحل العادي، لكنها تخلع على شخصيات مبتكرة ثوباً عادية زائفة، ومسار رواية تقليدية موهومة، بل ومسار فيلم تقليدي، إذ أنها تحاكي، في بداياتها إلى تفاعلاتها إلي نهاياتها أفلام الحكايات، وتبني على حكاية زائفة، فيما كل شيء فيها يطل على معان أخرى، فتبدو الوقائع هنا في الغالب مجازات بعيدة.

نروح من بعيد، نراقب ليس فقط التفكك والانحلال بل نراقب أيضاً لعبة العنف الضمني والسري والحياة في الداخل الكهفي. الداخل الذي هو أيضاً مجاز يعتمد على واقعية زائفة، فتحت القصر هناك هذا القبو السري الذي لجأت إليه المدبرة القديمة لتخفي فيها زوجها المطارد بعد أن انهارت تجارته وهو يقضي فيه سنوات يخاطب فيها العالم بالشيفرة. نحن هكذا أمام مجاز كفكاوي، ومن هذا الداخل، الذي هو ايضاً ساحة عنف ضارٍ نصعد منه إلى سطح يبدأ بلعب طفولي لينتهي بمجزرة دامية. ليس ذلك، في مجموعه سوى جمالية العنف المختلط باللعب الذي لا يلبث ان يصبح دائماً. نحن هنا أمام عبقرية الشر الذي، في تحوله الى واقع، يحاكي الحياة نفسها في انقلابها وتدميرها لنفسها وغرقها في لا معنى اسطوري، يجد بسهولة وسلاسة، بل وحكائية مفرطة، صوره ووقائعه التي هي أيضاً مجازاته ولعبته.