رواية "الحي الروسي".(أرشيف)
رواية "الحي الروسي".(أرشيف)
الإثنين 23 مارس 2020 / 18:05

"الحي الروسي" نسختان في الوجه ذاته

أننا، في الوقت نفسه أمام نص صُنع من الفكر والشعر في آن، لكنه أيضاً، بالدرجة الأولى، نسيج من الصور التي تستوي أولاً وتنبني في نوع من استقراء الصمت، وفي نوع من قيام خفي وشبه صامت ومتأنٍ للرواية

نقع في مستهل رواية "الحي الروسي" للسوري خليل الرز، على الزرافة المقيمة في سطح الحديقة التي يقطن فيها أيضاً الراوي، وسيلحقها على طول الرواية كلبان.. موستاش ورئيسة بتروفنا. الحيوانات هنا لا تتكلم فلسنا حيال حكايات تدور حول الحيوانات. الحيوانات هكذا تتدفق أفكارها على ألسنة الآخرين، لكن أفكارها هي بالدرجة الأولى صور، بل هي أحياناً أحلام. الحيوانات تفكر في منامات وكلام الآخرين. الراوية وصاحبته نونا، وربما على ألسنة وخواطر أبو علي سليمان وعبد الجليل حجازي وأركادي كوزميتش، فلسنا فقط في حكاية حيوانات. هذه بإزاء الأشخاص في اتصال دائم معهم، إذ إننا نجدها في خلفيتهم وأحياناً أمامها، وكأنها آفاق ونهايات لما يجري، بل كأنها داخل هؤلاء الأشخاص وسرهم وتأويلاتهم وأحياناً مُثُلهم ومستقبلاتهم.

لن نحصر الرواية في الحيوانات، إنها أيضاً بشخصياتها، بقدر ما هي بالحي الروسي الذي تدور فيه، كما أنها بالحرب المدوية التي تجري حوالي الحي وعلى مقربة منه قبل أن تقع على أرضه وبين ظهرانيه. لكن يتراءى أن أحد خطوطها الرئيسية هو هذا التبادل والتفاعل والانعكاس بين الحيوانات والأشخاص. لا يصرّ الروائي على حيوانية هذه الكائنات لكنه يصنع من صمتها مسرحاً ومنبعاً للصور والتأويلات. هنا نقف تقريباً أمام الشعر فالوقائع والأفكار تتم كصور أولاً. الرواية تتكلم بالصور هكذا، وليست الصور وحدها قريبة من الشعر بل تأويلاتها وتفاسيرها والأفكار التي تصدر عنها، هذه ليست أقل إيحاءً وألمعية من الصور، بل هي معها تزدوج في ما يشبه الدمغ بالحقيقة أو ما يتلبس الحقيقة، الإلغاز بالحقيقة والكلام بها.

لغة الرواية التي تسعى لتصبّ هذه المصادر كلها، حكاية الحيوان والكلام بالصور، وتفسير الأحلام، والأفكار وما تحت الأفكار، والشخصيات المرمزة غالباً، لتصبّ هذه المصادر في الرواية بل تسعى لتكون جميعها في النسيج الروائي بل تكون بالدرجة الأولى في وجهة وغاية روائيتين، بحيث تبدو هكذا وكأنها تجريب للرواية وصناعة ثانية لها ووقوف عندها واكتشاف متجدد لها أو ابتكار لها من مواد روائية في الأصل أو غير روائية. لكن الرواية هي هنا مثال يتم بناؤه ، بل وابتكاره على طول الخط، بل يبدو وكأنه في كل ما يشكل النص قصده الأول، فالنص هنا يبتكر رواية من كل ما يخطر فيه. إنه يجعل الأفكار والحكايات والآراء والبيئة السياسية والحربية والمناخ الاجتماعي، يجعل من كل ذلك مخلوقاً روائياً بل يبدو، وكأنه اختراع للرواية وتجديد لها.

لكننا مع ذلك لا نعود الى الشعر وحده أيضاً، بل وإلى التحليل النفسي، فنحن لا نغفل، ونحن نقرأ، عن "تفسير الأحلام"، لكن بدون القاعدة الفرويدية له. تفسير الأحلام هنا يتحول إلى دعامة روائية، بل يتحول هكذا إلى نسيج روائي، فنحن لا نزال حتى هنا، حتى هنا، في اختراع الرواية وإعادة ابتكارها. نحن هنا أمام تحويل التحليل النفسي إلى مادة روائية بل إلى رافعة  للعمل الروائي.

خليل الرز روائي سوري ومن البديهي، أن يلتفت، في روايته، إلى الحرب السورية. لكن هذه الحرب وسياساتها وتضاعيفها تُبتكر من جديد في روائية لافتة، فنحن هنا في موكب جنازة عصام نجد بالصور واللغة اختراعاً روائياً، فالفانتازيا والواقع المسحور، هما هنا في تصعيد روائي يقترب من الملحمة. كما أننا، في الوقت نفسه أمام نص صُنع من الفكر والشعر في آن، لكنه أيضاً، بالدرجة الأولى، نسيج من الصور التي تستوي أولاً وتنبني في نوع من استقراء الصمت، وفي نوع من قيام خفي وشبه صامت ومتأنٍ للرواية. هكذا يزاوج الرز بين الحكاية والملحمة والاحتفال، ويطوي، في التسلسل والتدرج المتواليين، انفجارات روائية، حيث الصياغة تبني، في ما يشبه المنطق، العجيب والسحري.