تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 30 مارس 2020 / 19:46

الكتابة بالقفازات والعناق بالأحذية!

الآن، أجد نفسي مضطراً للكتابة بالقفازات، وأنا أدرك أن الأمر قد يطول، وقد تصبح القفازات الطبية من لوازم الكتابة، لكي تتغير طقوس الكتابة مثلما تتغير طقوس أخرى كثيرة في الحياة التي تتجه بسرعة كبيرة إلى كتم المشاعر وإلغاء العناقات واستبدالها بالتلامس بالأقدام، لكي نتعلم العناق بالأحذية!

بإرادتهم أو رغماً عنهم وبحكم الظروف الطارئة، تتغير عادات البشر وأساليب حياتهم وطقوسهم اليومية. ولا ينحصر هذا التغيير الاختياري أو الإلزامي في أشكال التواصل بين الأفراد، بل يطال أيضاً طرق الأكل والعناية بالنظافة والمظهر والهندام والتسوق وأداء الواجبات الاجتماعية وحتى التعبير عن الأحاسيس الشخصية.

يفرض التغيير نفسه أيضاً على طرق العمل وأدواته وطقوسه، ويدفع المهنيين والحرفيين إلى مواكبته باستخدام وسائل وأدوات مستحدثة تم تطويرها في الأصل لزيادة الانتاج وتجويد المنتج ثم تحول وجودها إلى ضرورة لا يمكن التغاضي عنها.

في زمن التغيير الاختياري المتاح بفضل التطور الصناعي لم تعد أيدي النجارين خشنة ومجرحة بالأطراف المدببة لقطع الخشب، ولم تعد يد النجار أداة لفحص منتجه باللمس، فقد استحدثت أدوات خاصة لكل مراحل الإنتاج.

أما التغيير الإجباري فإنه أكثر حدة وصرامة، لأنه لا يكتفي بمنع الحرفيين من الإحساس بما تصنع أيديهم، بل يوقف إنتاجهم بالكامل، ويحرمهم من العمل.

يحدث هذا الآن، في زمن الكورونا، حيث يمكث نصف أهل الأرض في بيوتهم لاتقاء فيروس لا يرونه ولا يعرفون أين يمكن أن يصطادهم. وفي هذا الزمن تحل طقوس جديدة في حياة البشر يرتبط جلها بالصابون وبالمعقمات، وتبدو صنابير المياه أهم اختراع بشري!

في أسابيع قليلة، منذ ظهور الفيروس القاتل وحتى تفشيه في كل جهات الأرض، تغيرت حياتنا، وصرنا ملزمين بتغيير طقوسنا اليومية.

لا أعني النجارين والحدادين والحرفيين فقط، بل كل المهنيين الذين استبدلوا علاقتهم بأدوات الإنتاج بعلاقة أقوى مع أدوات التعقيم والتنظيف، وحل حوض المغسلة في حمام البيت مكان الآلة في الورشة.. وتوقف الإنتاج.

أما نحن، أعني الكتاب والصحفيين، فقد استطاع كورونا أن يفرض علينا أيضاً تغييراً كبيراً في أشكال أدائنا لمهماتنا.

كثيرون منا اضطرهم الوباء وشروط الوقاية من الإصابة إلى هجر المكاتب واستوديوهات الإذاعة والتلفزة، والمكوث في بيوتهم والعمل عن بعد. ولم يتوقف الأمر عند الشرط المكاني، بل تعداه إلى تغيير طقوس الكتابة، حيث تحول شكل الكتابة إلى أداء حذر يعتني بسلامة الذات أكثر من سلامة الفكرة والموضوع.

ها أنا أكتب مقالتي الآن وأنا أرتدي قفازات طبية تقي يدي وأصابعي من شرور ما يعلق بلوحة أزرار الحاسوب رغم حرصي على تعقيمها المستمر بالمطهر الكحولي القاتل للفيروسات.
وها أنا أعاني في البحث عن أدوات الربط بين الجملة وما يليها لأنني منهمك في البحث عن أدوات التعقيم، ومحاولة تجنب الكلمات التي تبدأ بحرف الكاف!

قبل أكثر من عشرين سنة كانت الكتابة مختلفة، وكانت لها طقوس خاصة.. فنجان القهوة، وعلبة التبغ، ورزمة الورق الأبيض، وقلم الحبر الجاف، والموسيقى الهادئة التي تنبعث من جهاز تسجيل قديم يلوك شريطاً قارب على الاهتراء من كثرة التشغيل.

تغيرت هذه الطقوس عندما حل الحاسوب الشخصي مكان القلم والورق، وصار الكاتب والصحفي مجبراً على تعلم الطباعة وإرسال المادة من خلال الحاسوب، ورغم أن هذا التغيير كان اختيارياً للمؤسسات إلا أنه كان إجبارياً بالنسبة للكتاب الذين لا يجيدون الطباعة، وأنا واحد من هؤلاء الذين اضطروا لتعلم الطباعة، ولو بإصبع واحد.

الآن، أجد نفسي مضطراً للكتابة بالقفازات، وأنا أدرك أن الأمر قد يطول، وقد تصبح القفازات الطبية من لوازم الكتابة، لكي تتغير طقوس الكتابة مثلما تتغير طقوس أخرى كثيرة في الحياة التي تتجه بسرعة كبيرة إلى كتم المشاعر وإلغاء العناقات واستبدالها بالتلامس بالأقدام، لكي نتعلم العناق بالأحذية!

المنتج الكتابي سيتغير أيضاً مع الزمن، وربما تكون الرواية الفائزة بجائزة بوكر القادمة عملاً إبداعياً عظيماً تتجسد ذروته الدرامية في البحث عن قطعة صابون.