رسم تعبيري للموت الأسود.(أرشيف)
رسم تعبيري للموت الأسود.(أرشيف)
الأحد 5 أبريل 2020 / 19:39

كورونا وسيناريوهات نهاية الأيام

يُضاف وباء كورونا المُستجد، هذه الأيام، إلى قائمة طويلة، تضم الحروب والهجرة والإرهاب، في أدبيات الإنجيليين المسيحيين في الولايات المتحدة، وأوروبا، وإسرائيل، وحتى في بلدان مثل كوريا الجنوبية، للتدليل على أن نهاية العالم قد اقتربت

من الطبيعي، والمنطقي تماماً، أن يعود الناس في أربعة أركان الأرض، في "زمن الكورونا" هذه الأيام، إلى قراءة روايات، ومشاهدة أفلام، عن الأوبئة والطواعين. وهي كثيرة، بالمناسبة، وتنتمي في علوم، وتاريخ الأدب، إلى ما يُعرف بجنس الأدب القيامي، أو أدب نهايات الأيام.
والواقع أن كافة التصوّرات الدينية، على مدار آلاف مؤلفة من السنين، قد انطوت على تأويل من نوع ما لنهاية العالم. وهذا ما يمكن العثور عليه، أيضاً، في الأساطير القديمة، في أزمنة ما قبل التاريخ، حول نشأة ونهاية الكون.

ومع ذلك، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمخيال القيامي، في الآداب والفنون الغربية على نحو خاص، فإن مصادره تتجلى في مصدرين أساسيين هما العهد القديم، وظاهرة الكولونيالية. وكلاهما وثيق الصلة بالآخر. فالعودة إلى نبوءات نهاية الأيام، في العهد القديم، مثلاً، ظهرت ملامحها في زمن اختراع التقاليد بداية من القرن السادس عشر الميلادي، وهي الفترة نفسها التي شهدت التوسع الكولونيالي الغربي في العالم.

في زمن اختراع التقاليد، والتعبير لإيريك هوبسباوم، أحد أهم المؤرخين في القرن العشرين، وقد برهن على فرضيته في كتاب يحمل العنوان نفسه، تعامل الغربيون بطريقة انتقائية مع الماضي، وأعادوا اختراعه، وفي سياق ما عُرف بالإصلاح الديني، في ذلك الوقت، وُلدت فكرة الميراث اليهودي ـ المسيحي للحضارة الغربية، التي لم تكن معروفة من قبل، ولم تكن لتخطر على بال أحد في القرون الوسطى.

وما يعنينا، في هذا الصدد، أن اختراع الماضي، وإعادة توليفه، والتعامل معه بطريقة انتقائية، لم يكن أمراً روحياً خالصاً، أو اقتصر على التصوّرات الدينية وحسب، بل كان مفيداً للظاهرة الكولونيالية، أيضاً. وبهذا المعنى، يمثل فتح العالم الجديد على يد الإسبان، ونشوء المستعمرات الأولى على يد الطهرانيين في أميركا الشمالية، وسيلة إيضاح مثالية. ولنلاحظ أن فتح العالم الجديد، وسقوط غرناطة، الذي توّج "حروب الاستعادة" في شبه الجزيرة الإيبيرية، وقعا في وقت واحد.

وقد تجلّت فائدة التصوّرات الدينية، المُستمدة من ماض أُعيد إنتاجه بطريقة انتقائية، في تأويلها للعالم الجديد كأرض ميعاد جديدة، ووصفها للسكان الأصليين بالعماليق لتبرير القضاء عليهم، وفي إضفاء سمة القداسة على أعمال دنيوية تماماً لا تمت للخلاص الروحي بصلة، بل هي أقرب ما تكون إلى أعمال الغزو والسرقة.

وإذا ما وضعنا مذكّرات المستعمرين الأوائل جانباً، وفيها ما لا يحصى من الشواهد، يكفي النظر إلى شواهد حيّة تتجسّد في مئات القرى والبلدات الصغيرة في الولايات المتحدة التي ما زالت، حتى الآن، تحمل أسماء مثل القدس، وبيت لحم، والناصرة، للتدليل على الوظيفة التأويلية للتصوّرات الدينية في زمن التوسّع الكولونيالي.

في سياق التوسّع الكولونيالي، الذي لم يقتصر على أميركا الشمالية، وفي المجاهل الجديدة، والغابات الداكنة والغامضة، والأراضي المفتوحة الشاسعة، والثروات الطبيعية الهائلة، والمذابح التي ارتكبت بحق السكّان الأصليين، وما ولَّد الغزو من ذنب لم تنجح التأويلات والتصوّرات الدينية الملفقة في طرده من الخيال والذاكرة، وُلدت تصوّرات، وأخيلة، ما سيصبح في وقت لاحق: الأدب القيامي، أو أدب نهاية الأيام.

والمفارقة الموحية، واللافتة، أن توليف الميراث اليهودي ـ المسيحي المشترك للحضارة الغربية، في سياق اختراع التقاليد لم يتوقف عند تأويل الظاهرة الكولونيالية، وابتكار أجناس أدبية جديدة وحسب، بل ويشتغل هذه الأيام، أيضاً، كمحرّك أيديولوجي هائل الحجم للقوميات العرقية ـ والدينية البيضاء، التي يتولى منظروها تأويل الحرب في الشرق الأوسط، وموجة الإرهاب التي ضربت العالم، والهجرة، وتغيّر المناخ، وظهور الأوبئة، بنبوءات آخر الأيام في العهد القديم.

لذا، يُضاف وباء كورونا المُستجد، هذه الأيام، إلى قائمة طويلة، تضم الحروب والهجرة والإرهاب، في أدبيات الإنجيليين المسيحيين في الولايات المتحدة، وأوروبا، وإسرائيل، وحتى في بلدان مثل كوريا الجنوبية، للتدليل على أن نهاية العالم قد اقتربت، وأن الديمقراطيات الليبرالية الغربية من جنود "المسيح الدجّال"، وأن ما من باب للخلاص سوى المسيحية الإنجيلية نفسها في ربع الساعة الأخير.

ولعل في هذا ما يكفي للتدليل على مرجعية السيناريوهات السوداوية في آداب وفنون نهايات الأيام من ناحية، وحقيقة أن بين البشر من المتعصبين والمتطرفين مَنْ يأخذها على محمل الجد، ولا يتوانى عن محاولة نقلها من الخيال إلى الواقع من ناحية ثانية.