الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي (أرشيف)
الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي (أرشيف)
الأربعاء 8 أبريل 2020 / 20:01

هوامش عن همنغواي

عاش إرنست همنغواي حياة المراسل الأجنبي، اعتباراً من 1921، متخذاً من باريس قاعدة، كان يغطي أخبار الحروب، والمؤتمرات الدولية، لكن بؤرة اهتمامه كانت مركزة على رجال الأدب المغتربين، كان همنغواي يكتب نثراً مشدوداً، دون ترهل، ولهذا لم يكن يحب دوستوفيسكي.

الكتابة تستعصي عليّ. أمسك بندقية بماسورتين، بروحين، صوبها إلى جبهته، وأطلق النار

قال همنغواي لصديقه سكوت فيتزجيرالد: "أبطال دوستويفسكي صغار السن، مراهقون، يتجرعون العواطف، والانفعالات المحمومة على بطون خاوية. قرحة في أمعاء الدراما". على العكس كان جويس، القريب إلى قلب همنغواي، يهتم بفطور بطل "عوليس"، ليوبولد بلوم، قبل متاهاته الدرامية.

اختار همنغواي أعمار أبطاله في منتصف العمر، أو في نهايته. أعمال "إن كنت تملك وإن كنت لا تملك"، و"العجوز والبحر"، و"حياة فرانسيس ماكومبير القصيرة السعيدة"، وهذا الأخير ليس صغير السن كما قد يوحي العنوان، بل هو في منتصف العمر، في الخامسة والثلاثين من عمره، أي أكبر على الأقل، بخمسة عشرة عاماً، من راسكولينكوف، الطالب المراهق، بطل "الجريمة والعقاب"، لدوستوفيسكي.

تعلم همنغواي فن الكتابة التلغرافية من مهنة المراسل الصحافي. البرقية ليس فيها صفات، أو أحوال، لا شيء سوى الدم، والعظم، والعضلات.

نقل همنغواي جماليات البرقية إلى الكتابة الأدبية. ابحث عما أعطاك الإحساس، الفعل الذي أعطاك الدهشة، بعد ذلك اكتبه بوضوح، حتى يراه القارئ. كل شيء لا بد أن يتم باختصار، وباقتصاد، وببساطة، وبأفعال قوية، وبعبارات قصيرة. النثر معمار، وليس ديكوراً داخلياً.

كارثة دوستويفسكي في رأي همنغواي، أن أبطاله، عاطلون عن العمل، لا يمتهنون المهن الواقعية، الواضحة. تُمثّل مهنة الصيد عند همنغواي، النموذج الأقوى الذي يُبعد الدراما عن ميوعة اللا مهنة. الكاتب مع لا مهنة لبطله، يتورط في التأمل، والتفكير، فلا يستطيع القارئ تمييز البطل عن الكاتب.

الصيد عند همنغواي، يُدخل بطله مُباشرةً في الفعل. يشتبك البطل مع أدوات الصيد التي تتطلب الحرفية، ومهارة الاستخدام.

كان همنغواي بشكل دفين، يحتقر الحديث عن المجهود الذهني، داخل أعماله، أي الحديث عن الكتابة، باستثناء عمله "وليمة متنقلة"، ولهذا وضع مهنة الصيد، ومصارعة الثيران، في مكانة أعلى.

حدد همنغواي مرةً مثله الأعلى، بأنه القدرة على بيان الفضيلة تحت ضغطٍ. ولأن همنغواي ليس بارعاً في التأويل، والشرح، فلا مفر من التخمين. لعله يقصد أن الفعل الروائي أياً كان، غير محايد، فوجبة طعام لأحد أبطاله، طالما هي تحت وطأة الحكم، فهي جيدة، أو رديئة، يستمتع بها البطل، أو هي لسد فراغ درامي، تتعرض للصحيح، والخاطئ، النبيل، وغير النبيل.

هذا يعني أن همنغواي يقدم كل شيء في إطار أخلاقي، بحيث تتكلم الأفعال، أو الأحداث عن نفسها. يقع بطل رواية "حياة فرانسيس ماكومبير"، في لحظة جبن أمام صيد أسد أفريقي. يُقال إن وصف الجبن لا يستطيعه إلا أكثر الناس شجاعة. نحت همنغواي أسلوبه الأدبي، وعالمه الأخلاقي، من عود واحد. فما يكتب عنه، يمارسه.

مراسل نيويورك تايمز هربرت ماثيوز، يحكي كيف أنقذه همنغواي من الغرق أثناء معركة "نهر ابرو" 1938.

حكى أيضاً صيادون في شرق أفريقيا، عن شجاعة همنغواي. لم تكن شجاعة همنغواي هوجاء، بل ربما تعرض للحظات جبن، كما وصفها في "حياة فرانسيس ماكومبير"، إلا أن صرامته كانت تقهر دائماً لحظات الخوف.

كان أحد هواجس همنغواي، أن يُضيف عدة سنوات إلى عمره في العشرينيات، ليتخلص سريعاً من سن المُراهقة. سأله سكوت فيتزجيرالد ضاحكاً: "هل قرأت رواية "المُراهق" لدويستويفسكي؟" أجاب أنه لو اقترب منها، لفقد رغبته في الكتابة إلى الأبد.

يقول بول جونسون عنه في كتاب "المثقفون": "كان همنغواي يضع التجربة، والخبرة، في حسابه البنكي، ثم يسحب منهما، لصالح أدبه".

استعارة وضع حساب الخبرة، والتجربة، في حساب بنكي، يعني بها جونسون، أن همنغواي، وهو يراكم خبرته، وتجربته، في الصيد، والسفر، لا يفكر في السحب البنكي القريب، بل يكون السحب البنكي دائماً تحت وطأة انكسار مُفاجئ للخبرة، والتجربة، وعلى هذا يكون الارتداد للسحب البنكي جنونياً، إلى حد الإفلاس.

كتب همنغواي كتاب "موت بعد الظهيرة" في 1932، عن فن قتل الثيران التي تُربى، لتكون ثيراناً مُقاتلة. قصد همنغواي من الكتاب، أن يفسّر شكلاً من أشكال الفن الذكوري، وليس الرياضة، في اعتقاد إدوارد سعيد.

كان همنغواي مهووساً بمصارعة الثيران، بفن إطالة أمد الموت، من خلال مواجهة نزيهة بين الثور والمصارع، "الماتادور"، تخضع لقواعد كثيرة معقدة، وتنتهي بمعانٍ أخلاقية مثل الشجاعة، والقوة، والخوف، والشرف.

في 1959 تعاقدت مجلة "لايف" مع همنغواي على كتابة سلسلة تتناول مباريات مصارعة الثيران. كان همنغواي منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، يُعاني من عكارة أسلوبية شابت نثره الصافي. بكى همنغواي في 1961 وقال، إن "الكتابة تستعصي عليّ". أمسك بندقية بماسورتين، بروحين، صوبها إلى جبهته، وأطلق النار.