سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة (أرشيف)
سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة (أرشيف)
الإثنين 15 يونيو 2020 / 19:22

مقال السفير العتيبة ولا تاريخية الكائن الإخواني

في ظرف قرن واحد، لم يعرف العالم ما عرفه القرن العشرين من تطورات وتحولات سريعة متواترة طالت كل دوله وجميع قاراته، ولكن العالم العربي بقي من الاستثناءات القليلة، فلم يستقر بعد على ما يبدو على مواكبة حركة التاريخ، ومساره، وهو الذي يمضي قدماً إلى الأمام ولا يكون إلى الوراء أبداً، لا على شكل متكررات متشابهات بالمعني الماركسي للكلمة أي المأساة، ولا باستعادة ماضٍ ولى وانتهى أمره، ويكفي النظر إلى قضية مثل القضية الفلسطينية، منذ 80 عاماً، لندرك النفق الذي تردى فيه عالمنا العربي، من مأساة إلى هزيمة، ومن نكبة إلى نكسة، ومن انكسار إلى اندحار.

تغير العالم والبشر والكون، وحتى الكواكب الخارجية، بعد أن طالتها قدم الإنسان ووسائله الحديثة، وبقي الكوكب العربي، بارداً جامداً مغرقاً في الجهل المقدس، وفي الثبات الأعلى، بعيداً عن المصلحة وعن الوعي، وقريباً من الإغماءة الحضارية التي طال عهدها، ليكشف قصوراً وعجزاً عن تجاوز منطق الفشل وإصراراً على تكرار الخيبة، باسم الدين أحياناً وباسم التاريخ، أحيانا أخرى، في حين يمضي العالم إلى صناعة جغرافيا القرن الجديد، وتاريخ القرن الجديد، والجغرافيا كما يقول هيرودوت، أم التاريخ.

إن المستمع لمثل هذا الحديث، في عالم اليوم سينتفض مثل من هزه شيطان، ظل يهزنا عقوداً، ذات الشيطان الذي خرج من قمقمه في اليومين الماضيين، بعد المقال الحدث الذي نشره سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، في صحيفة إسرائيلية، ليخاطب به الرأي العام الإسرائيلي، لتحذيره من مضي حكومته في خيار الضم، والقضاء على حل الدولتين، وقتل آخر الأمال في حل معضلة الشرق الأوسط، بما يُرضي طرفي النزاع، ويضمن للمنطقة مستقبلاً يسير على إيقاع عقارب الساعة، لا حافي القدمين، على نصل السيف.

إن هذه المقاربة الواقعية هي التي سمحت لأعداء تاريخيين بتجاوز مآسي تاريخهم المشترك، وعلاقتهم المتوترة والدموية على مدى عقود، فلولا لاستمرت حرب المئة عام بين فرنسا وأنجلترا، إلى اليوم، ولم تنته في 1453، ولاستمرت فرنسا وألمانيا في حروبهما على مقاطعتى ألزاس ولورين، إلى اليوم، وربما أكثر، لولا ظهور رأي عام في هذه الدول في وقت من الأوقات، طالب بوقف الدماء ونزيفها، وبقيادات سياسية، تبنت مبكراً مقولة ميشال فوكو، القائل إن السياسة هي استكمال للحرب بطرق، أخرى، بعد عقود من اعتماد الدبلوماسية الدولية على مقولة العسكري الألماني الشهير، كارل كلوزيفتش، البروسي المتشدد الذي كان يعتبر أن الحرب، استكمال للسياسة والتفاوض بطرق أخرى هدفها إخضاع العدو المنهزم لإرادة المنتصر، وهي العقيدة التي طبعت السياسات الأوروبية والدولية المختلفة على امتداد القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وما تخللهما من جرائم وفظائع ضد الإنسانية، سواء كان ذلك بمناسبة الحربين العالميتين، أو في الجرائم الكثيرة التي تولدت عنهما، من تطهير عرقي، وإبادة، بدعوى الدين والعرق، والانتماء، من روسيا إلى بولونيا، ومن ألمانيا، إلى البوسنة والهرسك مثلاً في التسعينات من القرن الماضي، وبينهما فلسطين منذ 1948.

ولكن المتأمل في مثل هذه النوائب لا يفوته أن هذه الدول التي نهضت مجدداً وارتقى بعضها إلى مرتبة القوة العظمى اقتصادياً وسياسياً، لم تفعل ذلك، بالشعبوية أو الديماغوجية، بل بالوعي وبالتفكير العقلي التاريخي، الذي يقوم على قراءة الواقع، وتحليل ظروفه وأسباب الضعف والقوة التي يمكن تحقيقها بعد ذلك أو تلافيها، مع توفر شرط أساسي لا مفر منه، الصدق في القول، والتفكير وفق ما يقتضيه منطق العصر والمصلحة.

وبالرجوع إلى القضية الفلسطينية، فإن اللافت في الأمر إصرار بعض القوى في العالم العربي، منذ مئة عام أو أكثر على تجاهل التاريخ، واليوم والساعة، والعزف على المشاعر والعواطف العامة، ليس شحذاً للهم أو تعبئة لها، بل بحثاً عن مصالح ضيقة، وأهداف سياسية، ثبت منذ قرن فشلها، ليس بسبب المؤامرة، ولا عقوبةً إلهية، ولا عقاباً ربانياً، بل لانها أهداف غير سليمة، ولا تطابق لا العصر ولا المنطق، لا التاريخ، ولا الواقع، فهي مجرد خبط رأس على حائط من صخر، لا يضمن نتائج بقدر ما يضمن دماءً وآلاماً.

والواقع أن مبادرة السفير العتبية، حركت مياهاً راكدة كثيرة، وكشفت حجم لا تاريخية الكائن الإخواني وانفصامه السياسي التاريخي والثقافي.

فعند تأمل الخطاب الذي هز الرأي العام الإسرائيلي الداخلي، قبل العربي، وهو ما بحث عنه أساساً صاحب المقال، الذي تحدث مباشرة إلى المعني بالأمر الوحيد القادر على تغيير المشهد السياسي الإسرائيلي، وإجبار صانع القرار في تل أبيب على التعديل والمراجعة، أكثر مما فعلت قنابل حماس، والإخوان، وصواريخ القسام، منذ تشكيل الحركة وحتى قبل ذلك بكثير.

إن اللاوعي بالتاريخ، يكشف ما في الهجمة الإخوانية، من قصور نظر، وصبيانية غير رومانسية، وكيف يشكل مقال رأي زلزالاً لم تسجل إسرائيل، ومن ورائها اليمين الأمريكي الأكثر ولاءً وتأييداً لإسرائيل، في كل تاريخها الذي لم يتجاوز 70 عاماً حدثاً مماثلاً، أربكها وورطها بهذا الشكل، ليس لأنه خطر على وجودها، أو هدد برميها في البحر، وبمحوها من الوجود، بل لأنه كشف لها أن العالم العربي، يحتضن اليوم أصواتاً ورؤى، وقيماً جديدة، أشد خطراً وتهديداً للقلعة المحاصرة في الشرق الأوسط، وأسقط عنها حق "الدفاع المقدس"
والهجوم والدفاع الاستباقي وغير ذلك الكثير من مصطلحات الاستراتيجية والعسكرية الإسرائيلة، المتكلسة.

وكشف مقال العتيبة، أن هناك رأياً عاماً عربياً يتحدث إلى "عدوه" ليس طمعاً في تطبيع، بل بحثاً عن حل جذري، فلا الحرب ستزيل إسرائيل، ولا الحرب ستعود باللاجئين إلى بيوتهم في يافا أو الجليل، ولكن الواقعية، هي التي يمكنها أن تضمن للبشر على "الأرض المقدسة" أقدس ما وهبه الله للبشر: الحياة، والأمن والأمان.

وفي المقابل، يكشف هذا المقال الخطير، الهوة التي تردت فيها كل الحركات الإخوانية، الأصلية الصريحة منها، أو المتخفية والزاحفة في ثوب الحداثة والتحديث، من إخوان التنظيم العالمي، إلى إخوان تركيا، وتونس، مروراً بإخوان "البعد الخامس" من حرس القومية الشوفينية، أو اليسار المتصابي، التي سحب منه خطاب العقل في مقال العتيبة، شرعية مزعومة، رفعها الإخوان منذ قرن أشبه بـ "الراية الحمراء" بحثاً عن "استبضاع" صلاح الدين الجديد، ليحرر الأرض، وينقذ العرض، أما الإنسان فتلك مسألة أخرى.

إن الفارق البسيط بين طرح المقال الذي تعرض لحملة إخوانية شعواء، والدعوة إلى التطبيع، أنه بحث في مكامن الخلل، وتصدى لها، بالتمسك بالشرعية الدولية، وقبلها الشرعية الفلسطينية، والمضي في حل أعوص المشاكل، على غرار القضية الفلسطينية بشجاعة وبقوة المنطق والرأي، وليس بمنطق القوة، المفقود والمستحيل في مطلق الأحوال، وأول خلل وضع عليه صاحب المقال إصبعه، كان أنه لا حلاً لصراع الشرق الأوسط بعيداً عن الإنسان، فلسطينياً كان أو إسرائيلياً، فالفلسطيني الذي يقتصر كل همه في الحياة، على ضمان عودته إلى بيته مساءً، يستحق حياةً أفضل من ذلك بكثير، أما الإسرائيلي، فهو أيضاً يحتاج ولا شك بالنظر إلى تاريخه المشبع مصائباً ومذابحاً، إلى يوم واحد يسير فيه مشرقاً باسماً لا يفكر في سلاح، ولا في قتل جاره العربي، أو العربي القادم من الضفة أو غزة.

إن الإنسان وحده، محور القضية، وجوهر كل قضية، وهو ما رفضه الإخوان منذ ظهورهم ولا يزالون، معتبرين أن السلطة هي جوهر الوجود وغايته الأسمى، السلطة باسم الدين، أو الشرع، أو التاريخ، أو الجغرافيا، ولكن الحق في الحياة، مؤجل إلى ما بعد السلطة والاستفراد بها، ومفتاح هذه الحياة وشرطها الأول، العقل، معطل حتى تحقيق الهدف، الذي يدرك الإخوان قبل غيرهم، أنه شعار لن يتحقق على أرض الواقع إلا بعد مقتل آخر تابع.

وإذا كانت لهذا المقال من مزية، وفضيلة، فهي ولا شك أنه آلم الإخوان ومؤيديهم من أقصى الأرض إلى أدناها، ويكفي النظر اليوم إلى الحملة المنسقة ضد السفير العتيبة، ومن ورائه الإمارات بشكل عام، لندرك حجم الألم والوجيعة، ولندرك أيضاً، كيف لفكرة ورأي شجاع أن تؤلم أكثر من السيف والبندقية، وأن التوجه للعدو المعروف والمحدد بالحديث، على مرأى ومسمع العالم، أفضل من الحوار في الغرف المغلقة، التي سار عليها تنظيم الإخوان، وأحزاب الإخوان، منذ عقود، فليس من الشجاعة التهرب من وعود الظلام، لكن من أخلاق الفرسان تحمل مسؤولية الكلمة في السر والعلن، والكلمة سيف، تخافه طيور العتمة أكثر من خوفها من سهم الصياد، فسياسة غرس الرأس في الرمل مثل النعامة، أثتبت للبعيد قبل القريب، أنها خاسرة، لا تحل مشاكل بل تراكمها، فالذي لا يطرح حلولاً واقعيةً وعمليةً لمشاكل مؤلمة ومزمنة، لا يمكنه حلها بشرعية المرشد و لا بشعارات الإخوان، فالمشكلة واضحة ومعروفة، وأطراف الحوار، موجودون، بعضهم قريب من طاولة الحوار وبعضهم بعيد، ولكن الطاولة موجودة، وتنتظر من يجلس إليها، ليطرح عليها المشكلة الحقيقية، كيف نضمن للشرق الأوسط شمساً أفضل وأكثر نوراً، وليس كيف نضمن له قوافل من الموتى والقتلى.

وفي النهاية، يمكن القول دون خوف من مجافاة الصدق، إن مقال العتيبة لم يكن محاولةً تكسب شخصية، بقدر ما كان مقارنةً عقلانية، تطرح مشكلة، وشروط تجاوزها، بكثير من الواقعية والصبر، أو كما قال تشيرشل في بداية الحرب العالمية الثانية، عندما كادت تسقط بريطانيا تسقط تحت حذاء النازية: "لا أعدكم بالنصر السريع، وكل ما أعدكم به هو الكثير من الصبر، ومن الدموع"، إن الذي يعاني تعفناً في ذراعه لا يمكنه الأمل في الحياة، إذا لم يبتر ذراعه، دون مخدر لو اقتضى الأمر، طمعاً في الحياة، ولكن أن يصر على النجاة، فيما الموت يتسلل إلى جسمه كاملاً لا يمكنه أن يكون شجاعاً ولا ذكياً هو في أحسن الحالات متهور، وفي أسوئها جاهل، وأحياناً يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه.

إن الإخوان، وما تفرع عنهم، يرفضون مشروع العتيبة، لأنه ببساطة يسحب منهم أي قداسة مصطنعة، فيقدم مصلحة الإنسان والبشر، الفلسطيني بشكل خاص، والعربي بشكل عام، على مصلحة التنظيم والزعيم، والمنقذ، والخليفة المنتظر، أو الموعود.

إن المستقبل لا يصنعه مرشد، أو مدعي نبوءة، بل يصنعه، حر منطلق، لا تقيده ولاءات لجماعة، أو طائفة، إنما يدفعه ولاؤه للإنسانية والبشرية، طمعاً "في ما وراء العرش، لناله"، ولكن فكراً مثل فكر المرشد، وتابع المرشد، لا يقبل مثل هذا الطموح، كما رفض مثل هذا الحديث، وأخرجه من الحديث الشريف، بتعلة أنه لا خلق وراء العرش ليناله.

إن فكراً بهذا القصور، هو ذات الفكر، الذي يُصارع طواحين الهواء مثل دون كيخوت، منذ قرن، لا يعرف من يحارب، ولا كيف يحاربه، ولا بأي سلاح، مكتفياً بسيف مثلوم ودرع من قماش، ويعزي النفس بعد كل هزيمة بفكر المؤامرة، ونظرية التآمر.