احتجاجات في لبنان (أرشيف)
احتجاجات في لبنان (أرشيف)
الثلاثاء 27 أكتوبر 2020 / 11:07

كي لا يبقى العراقيون واللبنانيون أسرى عند إيران

مينا العريبي - الشرق الأوسط

مر أكثر من عام على خروج مظاهرات شعبية في كل من العراق ولبنان، تطالب بإصلاحات جوهرية تغير مسار بلديهما من دولتين أسيرتين لزعماء طوائف ومحسوبيات طائفية وتدخلات إيرانية ودولية إلى دولتين ذات سيادة محصنة ضد الفساد والاستغلال الخارجي لتمنح أبناء البلدين فرصة العيش الكريم.

وعلى الرغم من أن كلاً من العراق ولبنان شهدا حركات احتجاج عدة وتكرار المطالبة بالإصلاح خلال السنوات الماضية، إلا أن المظاهرات التي خرجت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 كانت مختلفة باستمراريتها ونضوج خطابها وتزامنت مع إفلاس نظامين سياسيين حاول القائمون عليهما الالتفاف على الفشل في إدارة الدولة من خلال الانتخابات. فلا شك أن العراق ولبنان يتمتعان بتنوع سياسي وحراك بين أحزاب سياسية يجعلهما مختلفين عن غالبية دول المنطقة، إلا إن في الواقع هذا التنوع بات مرهوناً بانتخابات لم تعد تخرج بتغيير حقيقي، بل تؤدي عادة إلى إعادة ترتيب للكراسي وتبادل المصالح بين الأحزاب المسيطرة على مفاصل الدولة، وعلى رأسها تلك المسلحة والمدعومة من قبل إيران. غطاء الانتخابات والوعود بتغيير رئاسة الحكومة لم تعد كافية لترضي الشعبين العراقي واللبناني بأن هناك تغييراً فعلياً يتغلب على الفساد الاداري والمالي الذي أنهك البلدين.

على الرغم من اختلاف الأسباب التي أدت إلى اندلاع الأزمات التي تواجه كلاً من العراق ولبنان، إلا إن هناك عناصر عدة مشتركة أدت إلى الحركتين الشعبيتين وهناك عوامل تجمع بين أسباب الفشل الحالي وفرص النجاح المستقبلي. وبينما رفع اللبنانيون شعار "كلن يعني كلن" في المظاهرات، في إشارة إلى الرفض المطلق إلى الزعماء السياسيين جملة وتفصلاً، ردد العراقيون شعار "نريد وطن" في مظاهراتهم. هذا الرفض اللبناني للقادة السياسيين يأتي بسبب عدم قدرتهم على حماية الدولة من الفساد المالي والإداري (بل البعض ساهم فيه) ولم يتمكنوا من حصر السلاح بيد الدولة. إذ إن اللبنانيين يريدون وطناً يحميهم ويحمي ابناءهم.

من جهة اخرى، بات العراقيون يرفضون غالبية الساسة المنخرطين في العملية السياسية، وهناك دلائل عدة على ذلك، من بينها مشاركة أقل من ثلث الناخبين العراقيين في الانتخابات السابقة عام 2018 واستمرار المظاهرات خلال هذا العام التي أعربت عن رفضها للجميع، فشعار "كلن يعني كلن" قد يترجم إلى "كلهم يعني كلهم" باللهجة العراقية قريباً.

ما يزيد الوضعين العراقي واللبناني تعقيداً هو أن في كلا البلدين يُطلب من الطبقة السياسية الحاكمة أن تُصلح نفسها. ومن المفارقة أن السياسيين والأحزاب السياسية التي تحكم البلاد، وهم المنتفعين الأوائل من النظام القائم مادياً وسياسياً، يُطلب منهم أن يقوموا بإصلاحات ستضر لا محالة بمصالحهم. قد يكون هناك عدد من السياسيين مستعدون لأن يتخلوا عن مصالحهم الشخصية والحزبية لصالح بلادهم، ولكنهم يبدون أقلية لا يمكن الاعتماد عليها لتقويم الأمور.

في بغداد، تشكلت حكومة جديدة بقيادة مصطفى الكاظمي في مايو (ايار) الماضي، بعد فشل شخصيتين قبله في تشكيل الحكومة. اختيار الكاظمي كان مرحباً به، إذ أنه لا يمثل أي حزب سياسي وليس مثقلا بتجربة الحكومات السابقة. وحاول أن يشكل حكومة تكنوقراط مستقلة لكن في النهاية المحاصصة الطائفية والإثنية المتحجرة في النظام الحالي تغلبت وبقيت غالبية الوزارات النافذة محصورة بهذه التركيبة بعد إصرار الأحزاب السياسية الحاكمة. واليوم حيث يخرج العراقيون مجدداً للاحتجاج في بغداد وغالبية مدن الجنوب، تتكرر المطالبات بالإصلاح وتغيير النظام السياسي الذي يكرس الانقسامات بدلاً من تغليب المصلحة الوطنية.

أما في بيروت، فقد عاد سعد الحريري بعد عام من استقالته سعياً لتشكيل حكومة جديدة. وصور الاجتماعات الأخيرة التي تجمع الحريري بالزعامات السياسية اللبنانية التي سيطرت على المشهد منذ عقود تظهر إلى أي درجة لم يستمع السياسيون لصيحات شعبهم المطالبة بالتغيير.

تفاصيل الحلول في العراق ولبنان قد تختلف ولكن الجوهر متشابه. الشعب يريد الحياة. وهذا يعني الأمن والأمان وفرص عمل توفر العيش الكريم. الأزمة المالية التي تعصف بلبنان تهدد بكسر الطبقة الوسطى كلياً وزيادة حدة الفقر في البلاد، إذ تشير آخر الإحصاءات أن 55٪ من سكان لبنان يعيشون دون مستوى خط الفقر. أما الأزمة المالية في العراق، فقد أدت إلى عدم دفع رواتب الآلاف من موظفي القطاع العام بينما البطالة بين الشباب تعتبر من الأعلى في المنطقة – على الرغم من تمتع بلدهم بأحد أهم احتياطات النفط في العالم. من الصعب التصديق بأن الدينار العراقي ما زال 1240 ديناراً مقابل الدولار، بينما الليرة اللبنانية مستمرة في انهيارها منذ سنة وأصبحت السوق السوداء تنافس البنك المركزي في التحكم بسعر صرف العملة.

الأمر الأكثر إلحاحاً في البلدين هو منع الانفلات الأمني. المقلق في كل من البلدين أن الشعبين مسلحان وهناك من يدجج بالسلاح في البلاد. وفي حال خرجت الأمور تماماً عن السيطرة، فإن احتمال النزاع المسلح قائم. هناك مناطق في العراق خرجت عن سيطرة الدولة منذ 2003 وتتأرجح بين التعاون مع الحكومة المركزية، بناء على اتفاقيات محددة تخدم مصالح محدودة، وبين الانفلات الأمني التام. وأما في لبنان، هناك مناطق تسيطر عليها ميليشيات مصغرة، غالباً ما تكون مدعومة سياسياً، بالسلاح.

العامل الخارجي في التأثير على مجريات الأمور في العراق ولبنان مهم وأبرزه يأتي من طهران. إيران دخلت بكل ثقلها في العراق وتدعم أحزاباً وميليشيات مختلفة لتصبح اللاعب الأقوى على الأرض، وهناك نفور شعبي قوي من إيران وعصاباتها المسلحة. كما أن هناك خيبة أمل من الولايات المتحدة من جهة واستهجان لدورها في إنشاء النظام السياسي القائم من جهة أخرى. أما في لبنان، فـ"حزب الله" يجاهر علناً بولائه لطهران بينما الولايات المتحدة تزيد من حدة العقوبات من دون دعم ملموس للشعب الذي يعاني من تبعاتها. إيران تلعب على الوتر الطائفي سعياً لإحكام سيطرتها على العراق ولبنان. والمعروف عن النظام الإيراني أنه يتبع أسلوب أخذ الرهائن من أجل الحصول على مطالبه السياسية. اليوم نرى شعبين بأكملهما، العراقي واللبناني، رهائن عند هذا النظام وأتباعه. فك أسرهم سيتطلب تحركاً داخلياً متواصلاً، فلا أمل في حل خارجي جدي لانقاذهم.

وهذا عامل آخر يجمع بين العراق ولبنان وهو عامل الأمل الذي ما زال موجوداً في البلدين بسبب المقومات التي يتمتعان بها والتي يجب أن تجعلهما من أفضل الدول في العالم، من شعبين مثقفين متنوعين إلى أراض خصبة تضمن غذاءهم وغذاء المنطقة لو وضعت سياسات سليمة، إلى روابط دولية بسبب تاريخ البلدين العريق. الحسرة في قلوب العراقيين واللبنانيين تأتي من إيمان أبناء الشعبين بقدرة بلديهما على أن يكونا من أفضل بقاع الأرض لولا ساستهما. ولذلك فالحراك الشعبي في كلا البلدين في غاية الأهمية. وعليه فإن الأمل بعد الله تعالى معقود.