الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في منتدى اقتصادي بأنقرة (أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في منتدى اقتصادي بأنقرة (أرشيف)
الجمعة 4 ديسمبر 2020 / 12:39

مشكلة الاقتصاد التركي... أردوغان

حذّر رئيس منتدى كامبريدج للشرق الأوسط وشمال أفريقيا شلومو جيسنر من الانجرار نحو التوقعات بتحسن الاقتصاد التركي، بعد حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن إصلاحات سياسية واقتصادية، ذلك أنه وبالنسبة إلى جيسنر، فإن مشكلة تركيا، هي أردوغان شخصياً.

مونتسكيو فيلسوف عصر الأنوار في أوروبا، وصف منذ 300 عام السلطنة العثمانية بـ "جسم مريض غير مدعوم بنظام غذائي معتدل واعتيادي، بل بعلاج قوي يستنزفه باستمرار"

كتب رئيس المنتدى في مجلة "فورين بوليسي" أن أداء الاقتصاد التركي كان الأسوأ بين الاقتصادات الناشئة لهذه السنة. وسبب ذلك ليس سراً، ذلك أنه على المدى الطويل، تستجيب الأسواق بإيجابية لليقين وتنهار أمام العشوائية، أما على المدى القصير، فتميل هذه الأسواق إلى التحسن حين تطرأ أخبار إيجابية، حتى لو لم تكن تلك الأنباء قادرة على إنتاج مكاسب فعلية.

وبالتالي، فإن ارتفاع الليرة التركية إلى أعلى معدل لها أمام الدولار منذ شهر تقريباً، ليس مفاجئاً، رغم تعهد أردوغان بقيادة تركيا نحو مسار اقتصادي جديد.

وجاء خطاب أردوغان بعد تغيير في الهيكل الاقتصادي في البلاد، بطرد حاكم البنك المركزي ورحيل صهر أردوغان ووزير الخزانة التركي بيرات البيرق.

ورغم أن المستثمرين رحبوا بالخبر بضجة كبيرة مع إعلان سيتي بنك وسوسييته جنرال تحسين توقعاتهما حول الليرة للمرة الأولى منذ فترة من الزمن، يبقى هناك سبب للحذر.

الابتعاد عن المغامرات 
رأى جيسنر أن طريق عودة الاقتصاد التركي إلى سابق عهده طويل، ويتطلب سياسة اقتصادية متجانسة لا تقودها نظريات المؤامرة وسياسات القوة التي اعتمدها أردوغان في السنوات الماضية.

وسيتطلب ذلك أيضاً حكومة تكبح جماح مغامراتها الخارجية وعدوانيتها في شرق المتوسط الأمر اللتين أضرتا بعلاقات تركيا مع أكبر شريك تجاري لها، الاتحاد الأوروبي، ذلك أن انتهاك تركيا لواجباتها في الاتحاد الجمركي الذي يربطها مع بروكسل، قلص التجارة بشكل بارز.

وسببت السياسات الخارجية التركية تردداً واسعاً قبل الاستثمار مالياً في السوق التركية. وحذّر تقرير لمجموعة سانتاندر من "القُرب من النزاعات في سوريا والعراق اللذين يعززان المخاطر الأمنية" بالتوازي مع "زيادة الاضطرابات والنزاع السياسي".

ولذلك، تابع جيسنر، فإن التغييرات البارزة والملموسة وحدها هي التي ستعيد ثقة المستثمرين في قدرة الدولة على سد العجز المالي الحاد، واستعادة الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تحتاجه البلاد.

17 عاماً من سوء الإدارة

وبالنظر إلى وضع الاقتصاد التركي الراهن، يسهل نسيان أنه كان خياراً جذاباً للمهتمين بالأسواق الناشئة، فبعد 17 عاماً من سوء إدارة أردوغان، هربت الأموال الأجنبية. وكان ذلك واضحاً في تقرير البنك المركزي التركي في يونيو (حزيران)، حين أظهرت الإحصاءات سحب أكثر من 8 مليارات دولار من أسواق الأسهم التركية بين يناير (كانون الثاني) ويونيو(حزيران).

ويبلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي في البورصة التركية ربع ما بلغه في 2013 والذي بلغ 82 مليار دولار. ورغم أن هروب رؤوس الأموال تعزز بعد جائحة كورونا، لكن الاقتصاد التركي لم يساعد في تقييده.

تقويض السوق الحرة 
تضمنت الإجراءات التي أدت إلى تآكل ثقة المستثمرين في البيع على المكشوف، وهي ممارسة يراهن فيها المستثمرون على ورقة مالية لتخفيض قيمتها وإعادة شرائها لاحقاً بسعر أقل.

وتضمنت أيضاً إقراض الأوراق المالية، وهو جزء لا يتجزأ، من البيع على المكشوف، وتزامن ذلك مع مخاوف جدية، مبنية على أسس متينة، من آفاق تأميم الكيانات الخاصة.

ووضعت اسطنبول قيوداً على السيولة والمعاملات المشتقة، وهي أدوات مالية معقدة وغامضة يستخدمها غالباً مستثمرون مغامرون، دون اهتمام بتقلباتها الشديدة والمتأصلة فيها.

وإلى جانب هذه الإجراءات التي تقوض السوق الحرة، لم تساعد نبرة أردوغان العدوانية تجاه الاستثمار الخارجي في الاقتصاد التركي، منذ تعزيز سلطاته سنة 2018، في تحسين الأوضاع.

فهمُه للاقتصاد... عبثيّ
أنكر أردوغان أي علاقة بين سياسات حكومته وانهيار الاقتصاد التركي، ليصل فهم الرئيس التركي الأولي للمبادئ الاقتصادية إلى حد العبث.

وأثار أردوغان الجدل بحديثه عن أعداء مجهولين، مثل "لوبي أسعار الفائدة" فانتقد المصرفيين الذين يدافعون عن أسعار فائدة عالية، وعن إصدار سندات حكومية، وتخفيض قيمة العملة، وعن سياسات نقدية مقبولة عموماً تستخدمها الدول الساعية إلى تخفيض معدلات التضخم.

ورغم الحاجة الملحة لذلك، إذ يكاد التضخم في تركيا يفوق 12%، وقف أردوغان ضد استخدام تلك السياسات النقدية.

لا أسواق حرّة مع التسلط
ويجدد جيسنر التأكيد أنه لا يجب إبداء الحماسة تجاه أي مسار يريد أردوغان اتخاذه. في جميع الاحتمالات، لن يعكس هذا المسار احتياجات تركيا الفعلية. عموماً، لا تتعايش الأسواق الحرة مع النزعات التسلطية لسياسات أردوغان التي كررها مراراً، بالتلاعب الاقتصادي، وبسجن معارضيه من الصحافيين، وتطهير القضاء والأكاديميين، والموظفين الذين يصفهم بالمنشقين.

لا تستطيع أي دولة سلوك مسار الإصلاح الحقيقي طالما أن المحسوبيات تقوض استقلالية مؤسساتها، وطالما أن سكانها يجمعون مدخراتهم بالعملة الأجنبية خشية أن تفقد الليرة قيمتها بين ليلة وضحاها، وطالما أن دينها الخارجي يتخطى 50% من ناتجها المحلي الإجمالي.

بعد رحيل أردوغان

ستتطلب إعادة تأهيل الاقتصاد التركي، أكثر بكثير من خطاب استبدال بعض المحسوبين على أردوغان، بمقربين آخرين منه. فالحاكم الجديد للبنك المركزي التركي ناجي إقبال، ووزير المالية لطفي إلفان مقربان من أردوغان.

وستتطلب إعادة التأهيل إجراءات قد تؤذي الفخر الاقتصادي التركي على المدى القصير، مثل ربط الليرة بالدولار، أو اليورو ،والإعراب عن نية دراسة حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي. ولكن هذه الإجراءات ستساعد في وضع الاقتصاد التركي على السكة الصحيحة.

ويؤكد جيسنر أن ذلك لن يحصل قبل رحيل أردوغان عن الحكم، خاصةً أن طلب الإنقاذ من صندوق النقد الدولي، سيُلزم أردوغان بالتوقف عن رعايته للاقتصاد المحلي.

توجُهه شرقاً سلبي
قد يكون أردوغان مراهناً على الغاز في شرقي المتوسط لتعزيز الاقتصاد، لكن هذه الاكتشافات يمكن ألا تتمتع بتأثير طويل المدى. ويكمن الحل البديل في ضمان حصول تركيا على قرضٍ من صندوق النقد الدولي، الذي سيشترط متطلبات الشفافية وتقليص البيروقراطية المتضخمة، وهي شروط لن يقبلها كبرياء أردوغان وقاعدته الشعبية التي شجعها على اعتبار الغرب مسؤولاً عن المشاكل الاقتصادية التركية.

وقد يكون المصدر البديل للتمويل دولتين ثريتين مثل الصين، أو قطر. لكن بصرف النظر عن خطاباته المعادية للغرب، يدرك أردوغان أن توجهه نحو الشرق سيؤثر سلباً على علاقاته مع بروكسل وواشنطن وهي علاقات تواجه أساساً ضغوطاً كبيرة.

تشخيص مونتسكيو 
يضيف جيسنر، أن مونتسكيو فيلسوف عصر الأنوار في أوروبا، وصف منذ 300 عام السلطنة العثمانية بـ "جسم مريض غير مدعوم بنظام غذائي معتدل واعتيادي، بل بعلاج قوي يستنزفه باستمرار". واعتبر الكاتب أن التغيير الاقتصادي لن يحصل قبل وصول هذا الاستنزاف إلى ذروته.

ويأمل الكاتب أن يتحقق ذلك قبل أن ينهار الاقتصاد التركي بشكل كامل. لكنه يشير إلى أن التاريخ يعلم دارسيه أن غياب الفاعلية في حكم الطغاة يستمر لفترة طويلة. وفي الوقت الحالي، يبدو أن أردوغان راض عن المحاولة.