مجموعة من المقاتلين المسلحين (أرشيف)
مجموعة من المقاتلين المسلحين (أرشيف)
الإثنين 21 يونيو 2021 / 12:03

ما فعلناه بمقاوماتنا المسلّحة.. وما فعلته بنا!

ماجد كيالي - العرب

لم تكن الحركة الوطنية الفلسطينية في المقاومة المسلحة أحسن من تجاربها الأخرى السياسية والحزبية والأيديولوجية، وهي التي كانت أطلقت الكفاح المسلح في أواسط الستينات من القرن الماضي لتحرير فلسطين من دون أي تمهيد أو تدريج سياسي أو كفاحي، وبالاعتماد على فكرتي "التوريط الواعي" لدول الطوق، واعتبار أن قضية فلسطين هي قضية مركزية للأمة العربية، وكأن وجود تلك الأمة متعين أو متحقق في دولة، أو كأن ثمة تطابقا بين الدولة والأمة (أو الشعب) في الأنظمة السائدة في البلدان العربية.

اللافت أن الفلسطينيين، الذين طالما تغنّوا بالكفاح المسلح وجعلوه في مكانة مقدسة خارج النقد، لم يبيّنوا قط ماهية استراتيجيتهم العسكرية، هم فقط أطلقوا المقاومة وتركوها لشأنها، في مختلف مساراتها، في أطوارها السلبية أو الإيجابية! الأنكى من ذلك أن تلك التجربة، على الرغم من الثغرات التي اعتورتها، والعفوية التي طبعتها، لم تحظ يوما بأيّ مراجعة تقييمية نقدية، ولم يتم التعامل معها بشكل مسؤول، وبما يخدم الهدف الوطني.

لكن الأكثر لفتاً للانتباه أن قادة، أو "أبوات"، المقاومة المسلحة، عند الفلسطينيين، ظلوا يعلون من شأنها، حتى بعد اختفاء قواعدهم العسكرية (في الخارج)، إثر الغزو الإسرائيلي للبنان (1982)، لكأن الكلام عن المقاومة المسلحة يعوّض عن وجودها الفعلي عند العديد من الفصائل، لاسيما التي لا تملك وجوداً عسكرياً لا في الداخل ولا في الخارج، أو كأن بعض الفصائل، في الداخل، يمكن أن تجمع بين كونها سلطة وحركة تحرر وطني!

مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية، أيضاً، أن الظاهرة المسلحة، العفوية والمزاجية، لم تطغ على شعاراتها فقط، إذ هي طغت، أيضا، على بناها وثقافتها، والأخطر من ذلك على علاقاتها الداخلية والبينية، والعلاقة بينها وبين مجتمعها.

هكذا تغلبت البني العسكرتارية الفلسطينية على البنى التنظيمية/الحزبية، وقد عزز من ذلك تحول الفصائل الفلسطينية إلى نوع من سلطة "كل بحسب حجمه"، تحت الاحتلال، في مكان وجودها، حيث فتح في الضفة وحماس في غزة، ما أدى إلى توتر، أو إرباك، العلاقات الداخلية، لاسيما في ظل نظام سياسي فلسطيني يعتمد نظام المحاصصة، لا التمثيل والانتخاب، وفي واقع تتجاذب فيه الفصائل الفلسطينية المداخلات الإقليمية والدولية.

ما الذي نجم عن ذلك، غير تقديس الكفاح المسلح، واقحامه في المنازعات والحسابات الداخلية؟ نجم عنه انزياح، أو انحراف، المقاومة المسلحة عن مسارها المفترض (استنزاف العدوّ وتحرير الأرض)، إذ باتت لها وظائف داخلية، تفيد بتكريس هيمنة هذا الفصيل أو ذاك، وتحديد موازين القوى الداخلية. كما نجم عن ذلك تقليل الفصائل من شأن الحياة البشرية، ومن مكانة القيم والحقوق الإنسانية الأخرى، كالحق في الحرية والتعليم والصحة والعيش الكريم والعدالة والاختيار الحر.

دليل ذلك أن تلك الحركات ضحّت (والأصح أهدرت)، عن قصد أو من دونه، بحيوات بشر كثيرين من دون عوائد مناسبة لصالح قضيتها الوطنية، ويمكن في ذلك مراجعة سجلات هذه الحركات (إن وجدت سجلات توثق هكذا حالات!). أيضاً، يمكن أن ندلل على ذلك في الصراعات الجانبية والمجانية التي تورّطت فيها الحركة الفلسطينية (في بعض الدول العربية)، وفي الصراعات والاقتتالات الداخلية، وفي المعارك غير المحسوبة التي خاضتها ضد عدوها، والتي استنزفتها، وقوّضت قواها، من دون حساب للجدوى، أو للموازنة بين الكلفة والمردود، في صراع يفترض أنه على الصمود وعلى طول النفَس.
ويكفي أن نذكر هنا، خسائر الفلسطينيين (دون أن نذكر خسائر البلدان العربية المجاورة)، التي ذهب معظمها في معارك جانبية (الأردن ـ لبنان وبعده في الضفة وغزة)، علما أنه لم يجر تفحص تداعيات كل ذلك، ولا البتّ بشأن المسؤولية عنها. تماماً مثلما لم تجر أيّ مراجعة ولا أيّ مساءلة لقيادتي فتح وحماس بشأن كيفية إدارتهما للمقاومة المسلحة في الانتفاضة الثانية (وفق نمط العمليات التفجيرية)، ولا بشأن مسؤوليتهما عن الاقتتال المروّع والمدمّر الذي جرى في غزة (2007)، في مثل هذه الأيام، والذي انتهى بهيمنة حماس هناك (بعد مصرع حوالي 400 من الفلسطينيين)، وبانقسام الكيان الفلسطيني.

مشكلة حركات التحرر الوطني المسلحة أن عنفها يرتد إلى الداخل، حينما تعجز عن تنفيسه ضد عدوها الوطني/الخارجي (خذ ما جرى مع حزب الله في لبنان مثلاً)، ما يقتل معنى التحرر والوطنية، ويرتد خراباً وعبثاً في المجتمعات المعنية. والأنكى أن هذا العنف الداخلي ليست له تعبيرات جسدية فقط، ما يجعل منه مجرد سلوكيات ظرفية أو طارئة، وإنما له تعبيرات أيديولوجية، بمعنى أنه عنف لفظي، أيضا، يتضمن الحط من قيمة الآخر، ومحو المختلف، وهذه هي وظيفة الخطابات الاتهامية الاستئصالية والتخوينية، وهذه الخطابات هي التي تبرّر العنف الداخلي وترسّخ استمراره.

وما يعزز من الطبيعة السلطوية والعنفية لحركات التحرير المسلحة، حقيقة أن تلك الحركات تستهويها السلطة، لاسيما أنها تعتمد على الألوف من المقاتلين المتفرغين، ومن المتعيشين من موارد خارجية (على الأغلب)، ما يخفف من تبعيتها لمجتمعها. بل إن هذه الحركات، وبشكل أكثر تحديدا، تنشئ، أو يخيل لها أنها تنشئ، نوعاً من مجتمع مواز، أو مجتمع بديل، تستعيض به، كما وتستقوي به، عن المجتمع الأصلي، الذي يدفع إلى الخلف، أو يزاح إلى الهامش؛ ما يفسر حال الغربة بين حال هذه الحركات وأحوال مجتمعاتها. وهنا ليس عبثاً، مثلاً، تصريح نصرالله بأن حزبه ومن معه لا يتأثر بما يجري في لبنان، بقوله "موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران" (25 – 6 – 2016). وهو مشابه لما أعلنه مؤخراً أحد قادة حماس من أن المساعدات الدولية التي ستقدم للقطاع ستغطي أضرار الحرب لأهالي القطاع، أما حماس فلديها مصادرها الخاصة!

أما في المجال المتعلق بالحريات وحياة الأفراد وقضاياهم وشؤونهم الحياتية الخاصة فتمكن ملاحظة أن حركات التحرر الوطني المسلحة لم تهتم إلى الدرجة المناسبة بهذه الأمور، التي اعتبرتها مجرد قضايا هامشية، أو ثانوية، يمكن أن تشغلها عن القضية الأساسية. في الغضون لنلاحظ مثلاً أن الحركة الوطنية الفلسطينية، إبان وجودها كدولة داخل الدولة في لبنان (1975 ـ 1982)، لم تحاول، مع حلفائها، تحسين قوانين الأحوال المدنية للفلسطينيين، ولم تحاول إنشاء كيانات اقتصادية أو اجتماعية أو تعليمية لهم، كما لم تحاول إجراء انتخابات لعضوية المجلس الوطني، ولا حتى لأيّ لجنة محلية في مخيّم.

هكذا فالفصائل المسلحة، هي الإرادة والراية، وهي الشعب والقضية، وهي المقرر والحكم، وهي مصدر الوطنية والقيمة على الوطن. هكذا فإن هذه الحركات لا تنتهك فقط (بشكل غير مباشر وربما بشكل غير مقصود) حياة الأفراد وحرياتهم وخياراتهم وإنما هي حتى تصادر دور المجتمعات، بإحلالها ذاتها مكان المجتمع؛ وفي ذلك فإنها تشابه في واقعها هذا واقع السلطات العربية، إذ ترى فتح في ذاتها الشعب الفلسطيني، وحماس لا تقل في ذلك عنها، وهي ترى أن أي خيار لها هو خيار الفلسطينيين، في غزة أو في خارجها.

هذا ما فعلته حركتنا الوطنية.. يبقى السؤال لماذا وصلت الأمور إلى هنا؟ وكيف يمكن تدارك هذا الانحدار، في مجال السياسية والثقافة والسلوكيات؟ هذا يأخذنا إلى حقيقة مفادها أن الأولوية ستبقى لإعادة بناء البيت الفلسطيني، من مدخل الانتخابات ما أمكن، ووفق رؤية تتأسس على مبدأ وحدانية الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، فقط فيما بعد ذلك تأتي مسألة أشكال الكفاح الممكنة والمناسبة، بحسب كل ظرف ووضع.