المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (أرشيف)
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (أرشيف)
السبت 25 سبتمبر 2021 / 16:05

ميركل مديرة الأزمات على وشك مغادرة المسرح السياسي

إذا كانت هناك سمة مشتركة تميز حقبة أنجيلا ميركل كمستشارة لألمانيا، فهي الأزمات التي أدارتها خلال قيادتها للبلاد على مدار ما يقرب من 16 عاماً في المنصب.

وقالت ميركل مؤخراً ببراجماتيتها المعتادة: "الحياة بدون أزمات ستكون بالطبع أبسط، لكن عندما تظهر، لا بد من التغلب عليها"، مضيفة أن "هذه الأزمات التي يأتي الكثير منها من الخارج تُظهر أن الألمان جزء من كُليّة عالمية".

وأول نوع من هذه "الكُليّة" حلّ بعد تولي ميركل منصبها في عام 2005 في صورة الأزمة المالية والمصرفية العالمية في خريف عام 2008، والتي كادت أن تعصف بمصرف "هيبو ريال ستيت" للتمويل العقاري في ألمانيا، وقامت ميركل ووزير المالية آنذاك بير شتاينبروك بعمل ثنائي رائع أمام الكاميرات لتهدئة المستثمرين الألمان.

وقالت ميركل أمام الصحفيين وهي ترتدي بدلة رمادية داكنة ويديها ملامسة بعضها لبعض على شكل جوهرة ماسية، وهي حركة اعتادت الظهور بها في الفعاليات العلنية: "نقول للمودعين إن ودائعهم آمنة"، وأكد شتاينبروك على تصريحات ميركل قائلاً إن "هذه التأكيدات إشارة مهمة لتجنب ردود فعل قد تزيد من صعوبة التغلب على الأزمة".

وكلماتهما المختارة بعناية كانت فعّالة، حيث لم يتحقق الانهيار المصرفي المتوقع، وتم لاحقا تأميم "هيبو ريال ستيت"، كما تدخلت الدولة لدعم بنوك أخرى، مثل "كومرتس بنك"، بمليارات اليورو من الأموال العامة.

ومن هذه الأزمة انتقلت ألمانيا مباشرة إلى أزمة اليورو، حيث واجهت دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي - واليونان على وجه الخصوص - الإفلاس بسبب الديون الوطنية المرتفعة، وكان وجود اليورو ذاته على حافة الهاوية.

وقالت حكومة ميركل في ذلك الحين: "إذا فشل اليورو، ستفشل أوروبا، ولا يمكن السماح بحدوث ذلك"، وقالت ميركل إن ألمانيا مستعدة لتقديم المساعدة، لكن "الشروط الصارمة" التي فرضتها المستشارة على تلك المساعدات حولتها إلى شخصية مكروهة، لا سيما في اليونان، حيث كان يتم إظهارها بشكل متكرر على اللافتات وفي المظاهرات بالزي النازي، ومع ذلك، فإن تجنب الأضرار الجسيمة التي لحقت بالاقتصاد الألماني وحماية اليورو أكدت أن محرك الاقتصاد الأوروبي بقي سالماً.

وبالمثل تعاملت ألمانيا تحت قيادة ميركل مع جائحة كورونا بحزم صارم، وقالت ميركل في خطاب تلفزيوني نادر في مارس(أذار) 2020: "هذا أمر خطير، خذوا الأمر على محمل الجد".

وحثت المستشارة على اتباع نهج حذر، وضغطت مراراً من أجل اتخاذ إجراءات أكثر صرامة رغم معارضة بعض قادة الولايات الألمانية الستة عشر، وتم توضيح حدود سلطتها في النظام الفيدرالي المعمول به في ألمانيا، حيث رفض رؤساء حكومات ولايات في بعض الأحيان اتباع سياستها بحذافيرها في هذا الشأن.

وأظهرت ميركل نفوذها الأوروبي عبر دفعها لإقرار صندوق الاتحاد الأوروبي للإنعاش الاقتصادي بقيمة 750 مليار يورو (880 مليار دولار) بدعم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

ويقول الصحفي والكاتب البريطاني الشهير جون كامبفنر إن "التغلب على هذه الأزمات يعني أن ميركل أصبحت تجسد رغبة ألمانيا العميقة في الاستقرار"، ولكن هذا التحليل لا يزال بعيداً عن الصورة الكاملة، فعلى مدار عقد ونصف اختارت ميركل أيضاً إنهاء الاستقرار، وكان ذلك على حسابها الخاص في كثير من الأحيان.

ففي عام 2010 أنهت ألمانيا التجنيد الإلزامي وبدأت في الاعتماد على جيش محترف، مخالفة بذلك تقاليد ما بعد الحرب المتمثلة في جيش من المواطنين العاديين، وبعد مرور عام على ذلك وقعت كارثة فوكوشيما النووية في اليابان، والتي كانت من تداعياتها إصدار قرار مفاجئ في ألمانيا بالتخلي عن الطاقة النووية.

ويندرج قرار السماح بزواج المثليين في عام 2017 ضمن فئة القرارات الخارجة عن الاستقرار، ففي مرحلة متأخرة من عملية إقرار هذا التشريع، منحت ميركل بشكل غير متوقع نواب تحالفها المسيحي حرية التصويت على هذه القضية دون إلزامهم بموقف معين، وصوتت معظم كتلتها المحافظة، بما فيها ميركل نفسها، ضد التشريع، لكنه أُقر في النهاية بأغلبية واضحة.

ولكن من بين جميع الأزمات التي واجهتها ميركل، تعتبر أزمة الهجرة في 2016-2015 انعكاساً لإرثها السياسي الأكثر تعقيداً واستمرارية في ألمانيا.

ومن بين جميع التصريحات التي أدلت بها ميركل كمستشارة، لم يكن لأي منها مثل هذا الصدى الذي خلفته كلماتها لسنوات عندما قالت في 31 أغسطس(آب) 2015: "لقد نجحنا في كثير من الأمور، وسوف ننجح في هذا"، وذلك حينما كان العدد الهائل من اللاجئين الذين يحاولون الفرار من الشرق الأوسط للوصول إلى شمال أوروبا غير واضح بعد".

وفي الساعات الأولى من يوم 5 سبتمبر(أيلول) الجاري، قررت الحكومتان الألمانية والنمساوية ترك حدودهما مفتوحة - وهي في النهاية حدود داخلية في منطقة الانتقال الحر "شينجن" - أمام آلاف اللاجئين العالقين في المجر.

وكتب كامفنر في كتابه الأخير عن ألمانيا: "تساءل الكثيرون عن دوافعها، وإن لم يكن السؤال عن دوافعها فكفاءتها"، واصفاً الأمر بأنه "من أكثر اللحظات استثنائية في تاريخ إعادة تأهيل ألمانيا بعد الحرب"، ولكن من الناحية السياسية، مثلت هذه كارثة بالنسبة لميركل، ويمكن القول إنها كانت كارثة أيضاً بالنسبة لحزبها المسيحي الديمقراطي (يمين الوسط).

وقد أدت هذه الأزمة إلى ارتفاع تأييد حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي في استطلاعات الرأي، ودخوله إلى البرلمان الألماني (بوندستاغ) في انتخابات عام 2017 بعد استغلاله موجة من المشاعر المعادية للأجانب، وذهب جزء من أصوات الحزب المسيحي الديمقراطي إلى "البديل الألماني" في هذه الانتخابات.

وأدت الزيادة الحادة في أعداد المهاجرين أيضاً إلى انقسام سياسي عميق بين الحزب المسيحي الديمقراطي وشقيقه الأصغر، الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، ما هدد بانهيار الحكومة الائتلافية.

وكشفت هذه الأزمة أيضاً النقاب عن جانبين من ألمانيا الحديثة: فقد أصبحت ميركل في بعض المناطق شخصية مكروهة وهدفاً للاحتجاجات، بينما حمل الألمان في مناطق أخرى ملصقات ترحيب بالوافدين الجدد.

وأدى الانخفاض الحاد اللاحق في أعداد الوافدين إلى البلاد ثم أزمة جائحة كورونا إلى نوع من الهدنة، لكن الجهود المبذولة لاستيعاب أكثر من مليون لاجئ - أكثر بكثير من أي بلد آخر في تلك الفترة - غيّرت ألمانيا بطرق بدأت تتضح معالمها الآن.

ولا تزال ميركل، التي تبلغ من العمر 67 عاماً، مشهورة بالتجهيز الدقيق قبل الاجتماعات، ومعالجة المشكلات بالطرق العلمية التي اكتسبتها خلال حصولها على درجة الدكتوراه في الفيزياء في ألمانيا الشرقية في سبعينيات القرن الماضي، وبينما تصدرت ميركل قائمة مجلة "فوربس" لأقوى نساء العالم 10 مرات على التوالي، حرصت المستشارة على أن تبقى حياتها الخاصة بعيدة عن الأضواء.

وتظهر ميركل في صور عطلاتها المنعزلة وهي تتجول في جزيرة إيشيا في خليج نابولي أو تتنزه مع زوجها يواخيم زاور في منطقة جنوب تيرول، شمال شرقي إيطاليا، وتكشف زياراتها السنوية إلى مدينة بايرويت الألمانية عن حبها للأوبرا، ولا سيما أعمال ريشارد فاجنر.

ويقدم أول رئيس للولايات المتحدة من أصل أربعة رؤساء تعاملت معهم ميركل خلال سنواتها الـ 16 هذا الملخص عن الفترة التي قضتها في السلطة، حيث قال جورج دبليو بوش في تصريحات لشبكة "دويتشه فيله" الألمانية الإعلامية: "ميركل نقلت الجودة والكرامة إلى موقع مهم للغاية، واتخذت قرارات صعبة للغاية. لقد فعلت ما هو الأفضل لألمانيا، وفعلته من منطلق المبدأ".

ورغم عدم مشاركتها في الانتخابات المقررة غداً الأحد، ستظل ميركل في السلطة لحين تشكيل حكومة جديدة في ألمانيا، وهي فترة لن تقل عن أسابيع إن لم تكن شهوراً، وأما بالنسبة لخططها بعد ذلك، فلم تصرح عنها بشيء سوى أنها لن تعود إلى هامبورغ، مسقط رأسها، وقالت: "سيأتي وقت للنظر في هذا الأمر".