الثلاثاء 30 نوفمبر 2021 / 10:31

لا سياسة رغم كثرة السياسيين

راغب جابر- النهار العربي

في الانظمة السياسية الديكتاتورية او الاوليغارشية أو الآحادية الحزب لا وجود لطبقة سياسية. هناك موظفون يعملون عند الحاكم يمكن الاستغناء عنهم بشطبة قلم أو طردهم شفويا من وظائفهم او اجبارهم على تقديم استقالاتهم. في تلك الانظمة لا نقاش ولا معارضة ولا تعددية ولا من يحزنون. وفي الأنظمة الليبرالية الديموقراطية هناك طبقة سياسية وموالاة ومعارضة تتنافسان عبر برامج وانتخابات دورية. لبنان يشكل حالة فريدة بين الانظمة السياسية في العالم. فهو نظام هجين لا يمكن تصنيفه دكتاتوريا ولا ديموقراطيا ولا ليبيراليا ولا حتى اوليغارشيا رغم تشابه تركيب السلطة فيه مع الاوليغارشية (الطغمة الحاكمة).

اذا كانت السياسة هي فن إدارة البلد ببشره واقتصاده واجتماعه ومستقبله، فهي في لبنان معدومة تماما. لاحياة سياسية في لبنان رغم كل الضجيج والمعارك الطاحنة. هذا يشبه كل شيء الا السياسة رغم التسميات المشتقة من السياسة. في لبنان ليست هناك طبقة سياسية حقيقية، هناك طبقة او مجموعة او فئة من الناس تحكم البلد وتتحكم به، بموارده وبشعبه وبكل شيء تقريبا.

الطبقة السياسية اللبنانية هي خليط متنافر من الحزبيين الطائفيين وأبناء البيوت السياسية التقليدية وأثرياء الحرب الاهلية وامرائها ورجال الأعمال والمصرفيين والإقطاعيين والطامحين الطامعين ورجال الدين والاعلاميين وبعض بقايا العلمانيين والعروبيين التائهين بين كل تلك "الأصناف". وهم على درجات في الاهمية والقرار. يتقدمهم زعماء الاحزاب الطائفية وكبار رجال الدين بعدما انحسر نفوذ الاقطاعيين والعائلات التقليدية. الفئات الباقية تابعون او "زلم" وأبواق عند المجموعة المغلقة من زعماء الطوائف الذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين، وغالبا هم متملقون بلا شخصية وبلا ارادة وبلا سلطان.

هؤلاء المدعوون طبقة سياسية في لبنان لهم فهمهم الخاص للسياسة يشبه فهم بعض أنظمة الدول الاكثر بؤسا وتخلفا. السياسة عندهم ليست فعلا وطنيا جامعا ولا حركة تقدمية ولا نظرية استشرافية شاملة. الوطن هو فى أقصى طموحاتهم الطائفة او الحزب او المنطقة او الجماعة اللصيقة، وقد يتقلص ليصل الى حدود العائلة او بعض الاتباع.

لقد اخترعوا مبدأ "الاقوى في طائفته" لتقاسم المناصب العليا الذي لا يعني وبكل وضوح الا تحجيم الوطن بحجم الطوائف وتقسيمه من من شعب الى شعوب ومن سلطة مركزية قوية الى فيدرالية طوائف مقنعة. واخترعوا "الميثاقية" في تسيير البلد وتعيين كبار الموظفين وصغارهم فتجمد كل كل شيء، من القضاء الى العسكر والأمن الى الوظائف المدنية. قضاء شبه معطل وادارة مهترئة وعسكر يعاني الامرين ولا يتجدد.

تختلف الطبقة السياسية في لبنان على كل شيء تقريبا لسبب مضمر هو عدم الايمان الضمني بهذا البلد كيانا واحدا موحدا مستقلا. لا احد بات مقتنعا بذلك، واذا وجد هذا الواحد فإنه يريده على صورته ومثاله وله وحده. يتحدثون كثيرا عن الشراكة وعن العيش المشترك حتى الملل والواقع انهم ليسوا شركاء أبدا. حتى على المحاصصة واقتسام المغانم لا يتفقون. كل منهم يريد الحصة الأكبرلطائفته ومحازبيه.

يخوضون معارك ضارية تعطل البلد المأزوم أصلا من أجل تعيين موظف او محاسبة مرتكب او اقالة مسؤول او مخطئ. وفورا تنزل الى الساحة الخطوط الحمر والنقاط في آخر السطر، وتطلق التهديدات الطائفية ولعبة شد الشعر والعض على الاصابع التي تنتهي غالبا بصفقة بين كبار المعنيين يكون الدولار قد اكتسب خلالها بضعة آلاف ليرة وخسر الشعب المقهور شيئا من لقمته ودوائه وتعليم ابنائه...

في المشهد اللبناني اليوم شعب جائع يشارف على الموت، نعم يشارف على الموت، عاجز تماما عن اي فعل اعتراضي حقيقي. مستسلم كليا في ظاهرة نيرفانية نادرة. هو أشبه باتباع ديانة باطنية غامضة من التي ينتحر أتباعها في طقوس جنائزية غريبة. وفي المشهد ذاته سلطة يختلف أركانها على جنس الملائكة.

منذ تفجير مرفأ بيروت في آب (اغسطس) 2020 يعيش لبنان بلا سياسة. ما تشهده ساحته ليس سياسة على الإطلاق، هو بالحرف تعطيل للسياسة بماهي فن ادارة البلاد. شهور مديدة بلا حكومة في فترة تكليف الرئيس سعد الحريري ثم حكومة عاجزة ومعطلة ثم مستقيلة برئاسة السياسي المبتدئ حسان دياب ثم حكومة معطلة وممنوعة من الاجتماع برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي.

من كان يعتقد ان في لبنان صراعا سياسيا فهو واهم. ومن يراهن على الانتخابات النيابية القادمة، اذا قدمت، واهم أيضا. لن يسمح هؤلاء "السياسيون" الذين لا يمارسون السياسة بمعناها العلمي والراقي، بأي عودة للسياسة.

ربما تعود السياسة يوما ما لتدير البلد، وربما لا تعود، ويبقى مشدودا الى عمود مكهرب لا يستطيع منه فكاكا.